شهرٌ واحد فقط بيننا وبين «يوم الفصل» التاسع من يناير المقبل، و«المكتوب في الجبين لابد تشوفو العين»، هكذا يقول أهلنا، ويقولون أيضاً في مثلهم الدارج «كان وقع الصقر كُتْر البتابت عيب»، وما أكثر «البتابت» التي نراها ونراقبها في سلوك الشريكين «القمرين النيرين» في سماء بلادنا -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- هذه الأيام، مع اقتراب موعد الاستفتاء على تقرير المصير، الذي كُتبت نتيجته سلفاً على جبين الوطن، برغم الفُرص المتاحة للطرفين في ركام هذه الأزمة التي صنعاها «بإيدُن وشديدُن» منذ أن قررا أن ينفرد كل منهما بمصير الإقليم الذي يحكمه ويتحكم فيه، في «ثنائية إقصائية» استبعدت كل صوت أو رأي سوى صوتيهما أو رأييهما. فعاشا وعاش، من ورائهم وتحتهم، الوطن بأجمعه في حالة شد وجذب، توتر وانفراج، خصام وتصالح، فتراكمت المشاكل وتوالت الأزمات بما جعل المواطن لا يعلم مصيره ولايفهم شيئاً عن ما تخبئه له الليالي ومقبل الأيام وسط «شيمة تقرير المصير» التي وجد نفسه يتخبط وسطها دون ذنب جناه. منذ يومين وجدنا أنفسنا في حالة من التفاؤل كادت أن تبدِّد الكثير من الإحباط الذي لازم التوقعات والرؤى البئيسة والتعيسة المترتبة على «حتمية الانفصال»، التي سار بذكرها الركبان وباتت قناعة راسخة لدى جميع المراقبين. فقد فاجأنا الشريكان باتفاق إطاري لتأمين حقول البترول في الجنوب، أشرف على توقيعه في «فلوج» نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه ونائب رئيس الحركة الشعبية وحكومة الجنوب الدكتور رياك مشار، وأمضاه وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين ووزير الجيش الشعبي نيال دينق، بحضور وزيري الداخلية في الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب وقيادات عسكرية من الجيشين. فقررتُ بيني وبين نفسي أن أكتب «إضاءة» بعنوان «اتفاق فلوج.. مقدمة لكونفيدرالية اقتصادية»، ورأيت أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يصبح مدخلاً لحل كل المشكلات العالقة بما فيها «معضلة أبيي»، ولم يكن مثل هذه الرؤية ضرباً من الخيال أو التمنيات، لأنني قدرت، كما قدر غيري كثيرون حاورتهم، أن مصلحة الشريكين -ناهيك عن مصلحة البلاد- تكمن في تجاوز الأزمات والتجاذبات، فلكلاهما مصلحة لدى الآخر لا يمكن تخطيها، فلا الدولة الوليدة في الجنوب يمكن أن تقف على رجليها لو تجددت الحرب وعطلت إنتاج النفط، ولا الدولة الشمالية يمكن أن تحتمل فقد البترول جملة، بما يقود لانهيار الاقتصاد. لكن لم تمض أكثر من أربعة وعشرين ساعة على ذلك الاتفاق، حتى فوجئنا مجدداً باتهام الشريك الأصغر (الحركة الشعبية) للشريك الأكبر بشن غارات عسكرية على شمال وغرب بحر الغزال، فتناقلت الفضائيات صور القصف ومخلفاته، بينما نفت القوات المسلحة على لسان الناطق باسمها أن تكون قد قامت بأي أعمال عسكرية جنوب خط 1956 الفاصل بين الجنوب والشمال، وأن كل ما تقوم به من عمليات يقع شمال ذلك الخط، ملاحقةً ومطاردةً لمقاتلي حركة العدل والمساواة وبعض مقاتلي حركة تحرير السودان جناح منو أركو ميناوي الدارفوريتين اللتين تتخذان -بحسب الناطق الرسمي العسكري- من الجنوب قاعدة لهجماتهما شمالاً، في اتهام مضاد للحركة الشعبية بإيواء متمردي دارفور. اتهام الحركة الشعبية للمؤتمر الوطني الذي جاء على لسان أمينها العام وزير السلام باقان أموم امتد لدمغ «الوطني» بالعمل على زعزعة الاستقرار في الجنوب من خلال دعم المليشيات الجنوبية للحرب ب«الوكالة»، بهدف تعطيل الاستفتاء عبر إسقاط حكومة الجنوب، وبناء على ذلك قررت الحركة تأجيل الدورة المدرسية المقرر إجراؤها خلال الأسبوع المقبل في شمال وغرب بحر الغزال. في الوقت ذاته فشل اجتماع الرئاسة الليلة قبل الماضية في التوصل إلى تسوية لنزاع أبيي، بعد تباين المواقف - بحسب «الصحافة»- بشأن المقترحات التي تقدم بها رئيس لجنة حكماء أفريقيا ثابو مبيكي، وذلك بعد لقاء الرئيس عمر البشير ونائبه الأول سلفاكير، بحضور مبيكي ورئيس اللجنة السياسية المشتركة صلاح قوش وباقان أموم، ومع ذلك عبًّر مبيكي للصحافيين عن تفاؤله وتوقع الوصول لاتفاق بين الشريكين في أية لحظة، ووصف تعاملهما مع مقترحاته ب«الجدية» برغم تباعد المواقف. لكن من جانب آخر، وإمعاناً في التناقض وحالة الشد والجذب والتوتر والانفراج التي تسود علاقة الشريكين، تقرأ في صحف الخرطوم أمس أيضاً بادرة تفاؤل خرجت عن محادثات الشريكين، التي رعتها النمسا ممثلة في وزير خارجيتها مايكل ليفر الذي يزور البلاد هذه الأيام، فقد وافق الشريكان وفق تصريحات لوزير الخارجية علي كرتي على قبول مبادرة النمسا التي جاءت تحت عنوان «الاعتماد المتبادل»، والتي بدأت بفيينا الشهر الماضي، ووافقا على عقد منتدى ثالث بذات الرعاية النمساوية في أديس أبابا في السابع عشر من الشهر الحالي. ويتلخص المسعى النمساوي بحسب وزير الخارجية كرتي في حاجة الطرفين كلٌ للآخر وإمكانية بلورة هذه «الحاجة» في شكل اتفاقات سياسية واقتصادية.. وهذا ما يمكن التوافق عليه وإن طال الزمن كما قال.نخلص من كل هذا إلى القول بأن «البتبتة» التي يبديها «صقور الوطني والحركة» في هذا الوقت لا معنى لها، فالأجدى والأنفع لكليهما أن يتجها للتفاهم والتعاون على حل كل المشكلات العالقة، وأن في التوافق منجاة للطرفين وتجنيب للوطن والمواطن حروبات عبثية وكوارث تعود على الجميع بالوبال، فهل يعود الجميع للتمسك باتفاق فلوج والمبادرة النمساوية والبناء عليهما للتغلب على كل المصاعب بإعمال العقل وتغليب منطق المصالح والواقعية، حتى لا نخسر السلام بعد أن أشرفنا على خسران الوحدة. ونكون بذلك قد كسبنا «فرصة» وسط ركام هذه الأزمة فرصة التآخي والتعاون وحسن الجوار والعيش المشترك بين أبناء وطن واحد وشعب واحد فرقت بينه أهواء السياسة.