لم يستطع كتَّاب وراصدو التاريخ أن يرفدوا الأجيال بكل تاريخ ومواقف أمتهم حتى جيلنا الحالي.. وإن أردنا تداركاً للحقب الماضية شددنا الرحال للمراجع (البريطانية)، إذ كانت ناشطة حتى بين (قرانا) و(فراقيننا) ناهيك عن (مدننا) و(منابرنا)، فإن أتتنا اليوم البوارق والالكترونيات عبر مطالع الشمس وضوء القمر.. مثلما حلقنا يوماً بمعجزة (الدابة) البراق.. من شواطئ بحرنا الأحمر حتى القدس.. وتحدثنا من منبر (المدينةالمنورة) مباشرة دون (جوَّال) إلى أقاصي المتحركات والفتوحات.. فإن الأمل أن تتحد الأفكار والأقمار و(تغربل) تراكمات الأحداث.. وترسم استراتيجياتها وتميز بين (وردها) و(ياسمينها).. حتى لا تسري عدوى الاتكالية وغض الطرف.. فإن الأمة الزاحفة نحو الأفق هي الأمة (الوسيطة)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)، فما من أمر أو شأن إلا ونتلقاه أو نأخذه بالانتباه والدراية ونتحسب لمآلاته.. ونقول (قادمون.. قادمون.. نحن.. نحن المسلمون)، ومن ذلك ظلت ترفرف أعلام الأجداد وراياتهم وهم ينشدون بالصوت الرفيع القوي: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية حتى قالوا: ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية وهم تعلو أصواتهم بذلك غرب النيل (بأم درمان) الفاتنة، وهم كذلك يرمقون مطلع الضحي من (شرق النيل).. وعبر النيل يمدون أيديهم للتآثر الفاتح (عبد الله جماع) بمدينة (الحلفاية)، الذي عانق هو الآخر (عمارة دنقس)، فلنا أن نعتز بمملكة (سوبا) قبل عجوبة.. وسلطنة (سنار).. قبل جيوش الدفتردار.. هؤلاء هم رجال صنعوا المعجزات ورفعوا رايات التوكل والتوحيد وبشريات الإسلام.. ويالك يا (سودان) من جذور وشواهد وتمدد.. ولكل مجال حديث.. وسيحين وقته يوماً بإذن الله.. وهل سيأتي (الغرب والشرق) وسيأتي (الجنوب معانقاً لبب) ليصنعوا التأريخ الزاخر في معركة وملحمة البطولات في أرض (كرري)، حين وقف الأجداد من كل السودان.. فهزموا النيران بمدافع التقوى والثبات.. فسطروا تاريخاً ضد المستعمر الغازي فأجلوه وبتروا (رأسه)، لأنه تطاول عليهم.. ولذلك خلدهم الشاعر حين قال (كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية).. ودونكم التاريخ.. قرائي الأحباب وقارئاتي.. ومن أبناء هؤلاء جئنا نحن من كل أرجاء السودان.. نتحدث بلغة ولهجة عصرنا.. فإن ذكرنا (أبو دجانة) أو (على عبد الفتاح) أو ذكرنا أميرهم ( الزبير) أو (إبراهيم شمس الدين).. فإننا نريد أن نقول لكل زمان (رجال) ولكل حال (مقال) .. وإن قلنا هؤلاء من (أولئك) نقول إنهم ساروا على الدرب لصنع المعجزات بمنطق عصرهم.. ولا غرابة أن أعود من منتدى (لهاجس) السودان الآني (ابيي) بشاهقة شرق (مدافن فاروق) قبيل المغرب، فأجد المثابر (يوسف عبد الفتاح) يقف على تزيين لوحة فاخرة.. ناحية ركن القيادة العامة الجنوبي الغربي.. على (السكة الحديد) وحوله لفيف من النابهين والمهندسين والشباب.. فأطروها.. وغيرها كثير.. وهكذا تترى الفوالق وإن حسب أحد أن النواتيء ستوقف الاستراتيجيات.. فإن المولى الأعلى تكفل بسد الفجوة ما دمنا مسلمين خالصين لله.. وهو الذي قال (... فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) ومن بين هذا وذاك نادى فيهم وفينا نداء الهمة أن (كرري) تمد يدها لتصافح (الحلفاية)، ولكن المدى جد مستطيل إلا أن يُمتطي بجسر مديد.. فمثلما جلس (شرف الدين بانقا) وآخرون لصناعة الأخاديد والمعابر والجسور استمر كذلك.. (عبد الوهاب محمد عثمان) وآخرون.. تدفع بعزائهم دوائر (القصر الجمهوري) السوداني.. حتى لا تمر عليهم خيوط الزمان الذي يزحف بسرعة قاصية لا يشعر بها أحدنا إلا وقد جاء العام العابر.. وهم يرفعون لافتات كتب عليها (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، من هذا الزحف تعانقت مدينة (أم درمان) ومدينة (بحري) فكان مخطط الجسر.. جسر (كرري) إلى (الحلفاية)، وهو الجسر الذي دفع به (د. عبد الحليم المتعافي) وسلمه لأخيه (د. عبد الرحمن الخضر) وهو أطول جسر في جمهورية السوداني القاصدة.. وهو الأفخم على مر عصورها.. وكلما نظرته تعاصفتك الرؤية والأفكار إذ يمتد (أي الجسر) من الأسفلت العابر من (الحلفاية) إلى (الجيلي) شمالاً.. ميناء السودان البري.. ومصفاته الأولى.. متمايلاً غرباً (أي الأسفلت) ليعبر النيل إلى (الحتانة) في (كرري) صانعة الصمود الوطني (بأم درمان)، ليمتزج بالأسفلت العابر شمالاً إلى (الكلية الحربية) عرين الأبطال.. فيصبح بذلك طريقاً وجسراً يأوى السيارات والدواب والمشاة... والرياضيين والرواجل من النساء لتخفيض أو تسليك الأوزان.. ثم المروحين عبر النسائم الندية والسياحة، ومناظر الحدائق والبستنة.. فهذا هو جسر (كرري الحلفاية) الذي احتشد اليه الرجال والشباب والنساء والشركات النافذة يقودهم كلهم (عمر) المشير.. الراعي الساهر.. فجاء الناس خلف واليهم للخرطوم (عبد الرحمن أحمد الخضر)، جاءوا يتوافدون زحفاً على الأقدام وعلى كل سيارة وباطح وثلاثي الأرجل.. وكان ذاك يوم الجمعة المباركة (السابع) من (يناير 2011م)، تقاطروا منذ منتصف النهار.. آمين (البيت الجديد)، الذي شيد تباريكاً لروح الشهيد القامة (إبراهيم شمس الدين) على حافة الأسفلت بأمتار.. محسوباً على سوق (الأحد) بالدروشاب.. ملتفاً بثلاثة أذرع ليكون للقادمين من (بحري) ملتقياً بمنعرج الجسر غرباً.. ثم يتناسق ليكون منطلقاً إلى (شندي) هناك (أي من المسجد) فمئذنتاه الشامختان تبهرك ليلاً من أبعاد نائية.. وجعلت ساحاته المنداحة لتكون متعددة المنافع والأغراض.. فهو مؤسسات.. حيث أزاح الستارة عن قاعدته الوالي (الخضر) يرافقه (عثمان الكباشي) وزير الوقف والتوجيه والدعوة.. ومن ثم بدأ المسجد رسالته المعهودة والأخرى الخدمية والإرشادية لكافة القوم.. منطلقاً باسم الشهيد الباقي (إبراهيم شمس الدين).. وأدى الناس فريضة (الجمعة)، ثم خرج الجمع ليغطي الساحات بين (الحلفاية) و(الإزيرقاب) و(الدروشاب) وترى المتحركات تعبر الجسر غرباً لتحط هي الأخرى بمسجد (الحتانة) الجديد.. أيضاً.. فالتقى الشروق بالغروب.. وانداحت الساحات كلها تتماوج و(تهلل) بنصر الله.. وبهذا الانجاز المفرح للزمان والمكان والإنسان لتكون (أم درمان) إلى (بحري) على مرمى البصر.. وتزداد فرحة الرؤية لمياهنا العذبة المنسابة بالتشابك العابر فوقها دون (تكدير) أو (بلل)، وهي من فضائل المولى على عباده.. (ولئن شكرتم لازيدنكم) وهو وعد من (الله) الذي لا يخلف الميعاد.. (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ونقول.. لنعم الصداقة والتعاون مع إخواننا (الأتراك) أصحاب الشركات الجادة وأهل المثابرة والوفاء بالوعد الذين امتازوا بهذا الانجاز التاريخي.. ولكم وقف الأخ (الرئيس البشير) معلناً بداية أسفلت وطريق (عبد الله جماع) الزراعي الذي كان يعرف بطريق مستر (مور)، حيث يبدأ من تقاطع كلية الزراعة بشمبات إلى (الجيلي) و (القراري) يحازي النيل الفخيم، فإذن (خير الناس أنفعهم للناس) كما أثبت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعليكم بالكياسة واليقظة والفطنة.. وهيا إلى الجسر..