في ثلاثينيات القرن الماضي استقدم الحاكم العام خبيراً من انجلترا لإصلاح شأن الخدمة المدنية في السودان، والتي كانت تشكو من التدهور والتسيب والانحراف.. وقد كتب الخبير تقريراً (محبطاً) للحاكم العام ووصف له العلاج الذي يتطلب عقوداً من الزمن، وتعاقدات مع ذوي الخبرة والاختصاص، ولما كانت ميزانية الحكومة محدودة وتأتي من الخزانة المصرية فإن التقرير والروشتة المصاحبة له قبع في الأضابير، واستمرت جهود الخواجات والهنود والشوام في تسيير دولاب الدولة حتى جاءت السودنة، وكان فيها أفذاذ ممن تلقوا قدراً مناسباً من التعليم وخبرة ضئيلة من المستعمرين، وكانت أعدادهم قليلة.. ولعل من العوامل التي أججَّت مشكلة الجنوب.. التقليد الأعمى لموظفي الدولة الذين سودنوا الوظائف للانجليز، بركوب الجياد، ولبس البرنيطة، والعجرفة، حتى أحس الجنوبيون بأنهم استبدلوا الخواجات المستعمرين بعرب مستعمرين.. وامتلأت شواغر الوظائف بكل من ألمَّ بقواعد الكتابة والقراءة (والطشاش في بلد العِمى شوف).. وحق للأستاذ علي عثمان محمد طه أن يتساءل في اجتماع قبل سنوات: (أنا عاوز أعرف الخدمة المدنية دي كانت كويسة متين؟! إذا كان الانجليز كانوا بيشتكوا منها منذ الثلاثينيات)!!.. ولولا إن للانجليز إدارة منظمة في بلادهم، وتقاليد راسخة وجيشاً منظماً لما تمكن الانجليز وتعدادهم تسعة ملايين نسمة- في ذلك الوقت- أن يبنوا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.. وكانت أعلامهم لا يطويها الظلام.. ومن هنا جاء تقليدهم بانزال العلم من السارية مع آخر ضوء ورفعه مع أول ضوء.. حتى دالت دولتهم وانحسرت قوتهم وطوى الملك الجبار قيوم السموات والأرض أعلامهم.. ونعود للخدمة المدنية والتي تغنينا بها كثيراً، ودائماً ما نسمع بأن الانجليز تركوا لنا خدمة مدنية زي الدهب المجمَّر، وقد يكون بعض هذا الكلام صحيحاً، ولكن الغرض من مثل هذه الأقوال كان هو المعارضة السياسية، خاصة بعد سياسة أو شعار التطهير واجب وطني.. أو إزالة آثار مايو.. أو الصالح العام بعد ثورة اكتوبر وانتفاضة أبريل وثورة الإنقاذ.. على التوالي.. ولما كان (فقه التبرير) أسهل أنواع الفقه، فإن من يقفون مع أو ضد هذه الشعارات لا يعدمون وسيلة للدفاع عن قناعاتهم.. وظل الجدل محتدماً بين أهل الخبرة وأهل الثقة ومن يقرَّب منهما، قال الفاروق عمر بن الخطاب:(من لي بأهل العراق إن وليت عليهم التقي استضعفوه وإن وليت عليهم القوي فجَّروه،(أي إدعوا إنه فاجر).. وكان المغيرة بن شعبه حاضراً فقال: يا أمير المؤمنين بل وليّ عليهم (القوي) فإنما لك قوته وعليه فجوره.. ولا تولي عليهم(التقي)، فإنما له تقواه وعليك ضعفه.. وهكذا كان.. ولعل هذه المواصفة هي الأفضل للدولة والناس في كل زمان ومكان. سعدت جداً وأنا أشاهد حشداً من الموظفين الجدد وهم في احتفالهم التدشيني للعمل بولاية الخرطوم، وقد خاطبهم الأستاذ علي عثمان محمد طه ونصحهم بعدم الجلوس في المكاتب، واتباع سياسة الباب المفتوح، والترفق بالمواطنين، وحذرهم من الانحراف والمحسوبية والفساد، ووعدهم بفتح أبواب التدريب لهم بالخارج حتى يثبتوا الكفاءة والنجاح.. وأثنى على سياسة لجنة الاختيار بالولاية التي حققت العدالة وترجمت الثقة.. ولعل تجربة ولاية الخرطوم التي خلت من المحسوبية وأهل الثقة وأولاد (المصارين البيض)، تُعد نموذجاً يحتذى لتشمل كل الولايات.. فقد كان الناس يقولون عند التقديم للوظائف (الجماعة ديل اختاروا ناسهم من زمان والإعلان ده تحصيل حاصل يعني نقدم ونحن قنعانين) إلا أن هذه المرة فإن أحداً لم يتبرم أو يتهم اللجنة التي أدت عملها بمنتهى الحزم والأمانة برغم البطء الذي شاب أداءها، وقد أعجبوني الضباط الإداريون (باليوني فورم) فأعادوا للنفس رونق الخدمة المدنية، ومظاهر الإدارة المنظمة التي كنا نراها صغاراً ونحن نتابع بالنظر مفتش الحكومات المحلية، وقد امتلأت كتفاه بالأشرطة المذهبة والمقصبة، وهو يمتطي العربة الهمبر الضخمة الفخمة يرفرف فوقها علم المديرية (هل من عودة تاني أم هي مستحيلة).. الخدمة المدنية تخطو الآن في ثبات وقد جُعلت لها وزارة كاملة اسمها الموارد البشرية فإلى الأمام. أطرف تهنئة بيوم الجمعة على طريقة أسماء برامج قناة الجزيرة تلقيتها عبر الهاتف تقول:الله يجعل سعادتك(بلا حدود)، وعملك للخير (سري للغاية)، وطريق الشر اليك في (الاتجاه المعاكس)، وطريقك الصالح (الشريعة والحياة)، والملائكة لحسناتك (مراسلون)، وأن لا يكون في عقيدتك (أكثر من رأي). وهذا هو المفروض