الحكمة الشعبية تقول «الشغل ما عيب.. العيب سرقة الجيب».. وقد كنا تلامذة وطلاباً لا نستنكف العمل في الزراعة والرعي وبناء الجالوص والزبالة وفتل الحبال ونساجة العناقريب ومساعدة أهلنا في ورود الماء من البئر والبحر والذهاب للطاحونة وتكسير الحطب وجمع الواقود» وتنظيف الزرائب.. وحش التمر.. لا نسأل الناس ولا ندعي المسكنة.. فإن أعطينا من غير مسألة أخذنا.. نرضى بقسمتنا ونجتهد في تحسين أوضاعنا بالرزق الحلال محافظين على عزتنا وكبريائنا وعرض أهلنا وبنات حلتنا.. بإسلامنا الفطري وتربيتنا السوية.. المستشار عبدالرحمن محمد الحسن «من الجزيرة التلبناب» أحد قيادات سوداتل كان يشاطرني التعليق والرأي ونحن نشاهد فيلماً عن الدعم الاجتماعي الذي تقدمه سوداتل.. وقد تحدث المعلق عن طالبة تدرس الطب في جامعة الخرطوم وتساعد أسرتها بالعمل في غسيل الملابس بالبيوت لتتمكن من مواصلة دراستها. وتحمد الله على ذلك.. وتشتكي فقط عن عدم قدرتها على متابعة المحاضرات أول الأسبوع بالتركيز اللازم نظراً لما تعانيه من إرهاق العمل الشاق يومي العطلة الأسبوعية.. حتى وصلت إليها يد سوداتل بدعمها الاجتماعي فارتاحت وكان عبدالرحمن يقول لي «الزمن تغير.. كنا زمان ندرس ونشتغل عادي.. وقال إن والده اجتهد عند قبوله بجامعة الخرطوم» «وفصّل له رداء».. ليدخل به الجامعة وهو يحسب أنه قد أحسن صنعاً!!.. فقال له ولده «يا أبوي الجامعة ما بيلبسوا فيها رداء.. لكن بنطلون!! ولعل السياسة الاستعمارية هي التي أرادت أن ينفصل الطلاب عن جذورهم بارتداء البنطلون أو اللبس الأفرنجي عموماً فيترفعون عن العمل اليدوي في الزراعة أو الرعي أو غيرهما، لأنهم أفندية».. وهكذا نشأ جيل من المتعلمين جافوا أهلهم وعافوا عيشتهم.. وأهلهم يسخرون من كل من يلبس البنطلون بأنه «كارب صِلِيبو» وياله من عيب. وبنفس القدر الذي أعجبت به بالطبيبة الطالبة غاسلة الملابس».. استغربت جداً من طالبة أبرمت اتفاقاً مع صاحب كافتيريا «لترمي له الطعمية» نظير أجر محدد.. ورمي الطعمية هنا حقيقة وليس مجازاً.. لأن تملق الآخرين يسمى اصطلاحاً «رمي الطعمية أو تكسير التلج».. لذا لزم التنويه.. وتسرد الطالبة قصة كفاحها من أجل تحصيل العمل.. فتقول كنت ماشة كويس... لحدي ما كشفت قصتي زميلة لي .. وبقيت ألقى مضايقة وإحراج من زميلاتي في الداخلية!! وسبحان الله .. المضايقة والإحراج في العمل الشريف؟!.. يعني لو كانت ماشة في البطال ما فيها حاجة مش كده!!.. إنه زمان أصبح فيه المعروف منكراً والمنكر معروفاً والعياذ بالله. وقد كان الطلاب الذين يتلقون دراستهم بالخارج يمارسون هناك بعض الأعمال التي تضمن لهم بعض المصاريف كغسيل الأطباق أو أعمال الحراسة الليلية أو توزيع بعض المنتجات أو تعليم الصغار مباديء اللغة العربية وهكذا.. وهم اليوم يحملون أرفع الدرجات العلمية ويشغلون أعلى الوظائف القيادية، من قضى منهم نحبة ومن ينتظر.. وما قدح ذلك في مكانتهم أو أصلهم.. فالكسب من العمل الشريف مهما تدنت مرتبته يزيد من صاحبه شرفاً وعزاً.. فقد رعى الرسول الكريم الغنم، بل إن معظم الرسل الكرام كانوا رعاة غنم.. وأعلى صلى الله عليه وسلم من قيمة العمل اليدوي فقال «طوبى لمن بات كالاً من عمل يده» وقال «من حمل فأساً وحبلاً ليحتطب خير له من العكوف في مسجدي هذا» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.. فما الغرابة إذاً أن تعمل طالبة جامعية في صناعة الطعمية.. وأخرى في غسيل الملابس أو غيرها من المهن البسيطة التي تضمن بها لقمة عيش شريفة تقيها من تكفف الناس.. أعطوها أو منعوها.. إن رائدة الدعم الاجتماعي «سوداتل» وقد فتحت باباً من أبواب الخير.. «للناس المعاها فلوس» تحيي موات نفوسنا وتهب الحياة لآخرين.. قال رجل وهو يتحدث عن حادثة في قريته «إن الأم تركت وليدها عند طرف الجمِام ونزلت تبحث عن الماء فتهدم عليها..» وما دلهم على موتها إلا بكاء طفلها وهو يشير إلى أن أمه تحت الهدم فانتشلوها جثة هامدة.. وجاءهم الدعم الاجتماعي ببئر غير معطلة وصهريج مشيد!! إنها نفس.. ومن أحياها فقد أحيا الناس جميعاً.. ولم يرق لي حديث «وزيرة» الصحة بولاية الخرطوم «ووزيرة» الرعاية الاجتماعية.. مع أن الوظيفة لا تؤنث «فالصحيح وزير» .. فقد اتفقنا على القول بأن تنسق سوادتل مع الوزارة قبل تقديم الدعم!!.. والرأي عندي أن تقوم كل وزارة بتوفير قاعدة البيانات فقط.. لا أن تتصرف في ميزانية الدعم الاجتماعي.. وأن تنفذ كل وزارة برامجها بميزانياتها.. لا أن تتحكم في أموال المانحين.. فلهم أن يوجهونها حيث شاءوا.. وكل وزارة تشوف شغلها. وهذا هو المفروض