مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    والي الخرطوم يشيد بمواقف شرفاء السودان بالخارج في شرح طبيعة الحرب وفضح ممارسات المليشيا المتمردة    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    محمد خير مستشاراً لرئيس الوزراء كامل إدريس    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المراسلة الذي أصبح مراسل ال«B.B.C»
نشر في آخر لحظة يوم 22 - 04 - 2011

جاء من شرق جبل مرة.. (قرية الملم) التي ألبسته عنفوان جبالها.. ودثّرته بإخضرار سفوحها.. فتطاول على السفح وسامق الجبل.. تفتحت مواهبه الفطرية منذ بواكير طفولته.. فدلق ألوان حروفه على الحوائط المدرسية.. وتردد عميق صوته الذي التقطه.. الهرم (عمر الجزلي).. فبسط له التلفزيون رداءه وهو بعد طالب.. عمل مُراسلة في مكاتب الاتحاد الاشتراكي.. ليكمل تعليمه.. وحفظ له الغيب عطية بأن يحذف «الهاء» من خانة وظيفته.. فأصبح بفضل جهوده.. مُراسلاً لقناة ال(B.B.C) العربية بواشنطن.. دخل البيت الأبيض.. والتقى بالرؤساء.. وعرف كيف يأتي بالخبر.. وكيف يصنع الدهشة..!
من البداية المولد والنشأة؟
- عند المولد، كما روت لي أمي، أنها كانت في ذلك اليوم وهو الخامس عشر من أغسطس عام 1962م تفلح الأرض في «زرع العيش» أي مزرعة الدخن في وادي «طاودو»، أحد سهول قرية «الملم» شرق جبل مرة، عند ميلان الشمس للغروب جاءها المخاض فدخلت صراعاً مريراً، فآلام المخاض تتزايد وباتت لا تقوى على وضع «السرج» على حمارها كي تذهب إلى المنزل والشمس احمرت وبدأت رويداً رويداً تتوارى في الظلام.. قالت لي أمي «دعوت كل أولياء الله الصالحين بمن فيهم جدها حمد الله الذي يرقد على مقربة من زرعي»، كي أتمكن من وضع السرج وركوب الحمار لمغادرة الزرع قبل حلول الظلام وخروج وحوش الخلاء»..
وكان لها ما أرادت فقد حملها الحمار بعيداً عن الزرع، لتصل بآلامها إلى البيت بعد العشاء، وبعدها بقليل كانت الولادة.. «أم كرامة» وآخرون تعقد الدهشة السنتهم ويقولون لها «كيف تسنى لك حمل الحملِ من الوادي إلى البيت؟!» فردت: خشيتُ على مولودي من الذئاب «فاعتصرت» المخاض حتى أصل إلى البيت.. في ذلك البيت صرخت صرختي الأولى فأطلق أبي أعيرة نارية في الهواء إعلاناً لأهل القرية أنه رزق مولوداً ذكراً.
أما النشأة فهي عين المكان الذي بدأت فيه رحلة الخروج إلى الحياة، فبعد أربعين يوماً من ولادتي حملتني أمي على ظهرها وهي تعود إلى الزرع.. قالت لي إنها تفرش ثوبها على الأعشاب وسط الزرع ثم تضعني فوق الثوب وأنا رضيع لا أبالي، وهي تفلح الأرض لا تبالي أيضاً لأنني أرقد على أجنحة الملائكة كما تقول أمي.. رضعتُ رائحة التراب والخضرة منذ أيامي الأولى في الحياة، وشببتُ ألهو في سهول يعمرها النبات والحيوان والزهر.. أتمرد على الزراعة أحياناً كي أسرح بالغنم والأبقار، خاصة عندما تستقبل «زرائبنا» مواليد جدد من السخلان والعجول.. في الليل نتحلق حول جداتنا وخالاتنا وأحياناً العمة «نمة» راوية الأحاجي، ثم أعود إلى منزل خالتي «أم الحسن».. كنا نجوب القرية طولاً وعرضاً متى وكيفما نشاء، فحيث حللنا هو بيتنا نأكل ونشرب ونُؤدب إن أسأنا الأدب.. وهكذا حتى دخلنا المدرسة الابتدائية في «الملم» وهي التي أهدت حياتي أجمل ست سنوات دفعتني منذ ذلك الوقت الباكر لأن أكون صحفياً.. وقد بدأت الممارسة فعلاً في حوائط المدرسة عام 1974م وتلك قصة أخرى سأرويها في حينها.
المراحل الدراسية.. ولماذا اخترت الإعلام؟
- اتخذ جدي لأمي العمدة آدم مكي قراراً جريئاً حدّد بداية مراحلي التعليمية.. فقد طلب منه المفتش الإنجليزي في أوائل الخمسينات جمع العمد والمشايخ في القرى ليعرض عليهم إنشاء مدرسة أولية في قرية الملم.. وأنشئت مدرسة الملم الأولية في عام 1955م وتحولت إلى ابتدائية بعد السلم التعليمي في عام 1970م، وكنا الدفعة الأولى من جيل السلُّم التعليمي وتم قبولي بالمدرسة في سن الثامنة لسبب غريب..
فقد بلغتُ سن السابعة في عام 1969م وهي السن التي تؤهل الصبيان لدخول المدرسة، غير أن هناك مؤهلاً آخر هو أن يكون الصبي مساوياً بدنياً لأقرانه.. عندما أخذني والدي إلى المدرسة في ذلك العام كنت نحيفاً وكان كل أقراني يفوقونني عمراً وبدناً، فكان قرار مجلس الآباء إرجائي للعام المقبل حتى يقوى بدني.. انفجرت باكياً وبقيت أسابيع انتحب لا أقوى على أكل العصيدة وشرب اللبن.. جاء بي والدي مرة ثانية في العام1970م، فنظرت إليّ اللجنة ووجدتني أكثر نحافة من العام الذي سبق وكانت تريد إرجائي للعام المقبل. ولكن الأقدار لطفت بي هذه المرة، فقد انضم إلى اللجنة خالي الأستاذ عبد الرحمن آدم مكي الذي نُقل في العام نفسه إلى المدرسة، وقال لهم بالحرف «إن أرجأتم لقمان عشرة سنوات أخرى فإنه لن يزداد طولاً ولا عرضاً، فمن الأفضل قبوله الآن» فقبلت في مدرسة الملم الابتدائية.. وكان ذلك اليوم هو ميلاد جديد في حياتي.
انتقلت من الوادي المشارف لمدرسة الملم الابتدائية إلى وادٍ آخر هو «ود برلي» في نيالا.. فقد بنى الإنجليز على ضفافه مدرسة جميلة تحمل الكثير من معالم المعمار الفيكتوري.. إنها نيالا الأميرية الثانوية العامة فالمدرسة نسق بشرى في أحد زوايا الطبيعة، تطل فصولها الدراسية على حديقة جنوبية تثمر صنوفاً شتى من الفاكهة، تغذيها رمال الوادي والمياء الجارية.. نخرج من البوابة الغربية ونشق الوادي غرباً حاملين كتبنا نقرأ الواجب المدرسي حتى نتوارى في غابة النيم، من أجمل ما رأيت من حدائق بناها الإنسان في نيالا.. تنتهي بنا الرحلة اليومية إلى الشاطئ الآخر من الوادي لنرى الشمس تتوارى غارقة في الشفق الأحمر، فنعود إلى داخليات المدرسة نصلي المغرب استعداداً للعودة إلى الفصول لأداء الاستذكار المسائي.. كنَّا في داخليات المدرسة طلاباً من كل «القبل الأربعة» لمحافظة دارفور الجنوبية حينها. رعانا أساتذة زرعوا فينا بذور الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي نيالا الثانوية.. المدرسة التي تجبرك على البقاء داخل أسوارها دون أن تفكر في الخروج.
قبل دخولنا إلى نيالا الثانوية كنا نسمع أن مديرها هو أستاذ اسمه «علي زهور»، وكنت أتساءل ماذا يعني علي زهور؟ فيجيبني بعض الطلبة الذين رأوا المدرسة، أدخل المدرسة وستعرف!!
في أول يوم وطأت قدماي المدرسة عرفت سر الاسم، فالمدرسة يغطيها الورد والزهر، وعند المدخل يأسرك فوحان الياسمين بكل أشكاله وألوانه وفي الداخل حول الفصول الدراسية يتشكل الأبيض بالبنفسج وتحمر «الجهنميات»، ثم يزدحم البصر بأشكال لا متناهية من الورد.. أما الداخليات التي عشت فيها أعواماً ثلاثة فهي غرف استقرت تحت ظلال الأشجار التي تطاولت ترعانا ليل نهار في مشهد بديع.. في نيالا الثانوية العليا ازدحمت حياتي بحركة لا تعرف السكون، سجلت نفسي عضواً في جمعية الخدمات الاجتماعية كي أسهم في رعاية الخضرة والزهور. توليت نيابة جمعية الثقافة وترأست جمعية التاريخ، هذا بجانب همي الأول وهو التحصيل الأكاديمي.. كنت في أوقات فراغي لا أتوقف عن الاستماع إلى المطرب أحمد المصطفى خاصة عندما أسقي الزهور التي زرعت منها أحواضاً تحيط بداخلية علي دينار التي قضيت فيها سنواتي الثلاثة في المدرسة.
عندما كنت في الصف الأول شتاء عام 1980م كانت مدينة نيالا موعودة بحدث مهم.. فقد دعت المحافظة المطرب الكبير أحمد المصطفى ليحيي حفلاً لجماهير المحافظة، واختارت المحافظة سينما نيالا بدرجاتها الفاخرة مكاناً يغني فيها.
في أحد أيام السبت شتاء ذلك العام كنت منهمكاً داخل الفصل استمع إلى أستاذ اللغة العربية، طرق باب الفصل صول المدرسة الصول عبد العزيز الذي لا يفارقه السوط، استأذن الأستاذ كي يأخذ معه التلميذ لقمان، خرجت فذهب بي إلى مكتب المدير.. هناك وجدت شخصين قالا لي: إنهما من مكتب المحافظ ويطلبان مني أن أُقدِّم المطرب أحمد المصطفى إلى جماهير نيالا يوم الخميس المقبل.. وإنهما أخذا الإذن من مدير المدرسة الأستاذ «علي زهور»..
عدت إلى الفصل أكملت الحصة وأكملت يومي الدراسي، ثم بدأت الدهشة تحاصرني.. لماذا يأتي إليّ أشخاص من مكتب المحافظ؟ ولماذا جاءوا اليّ أصلاً؟ ألم يكن بالمدينة أو المدرسة أشخاص غيرى؟ سرعان ما رميت كل تلك الهواجس وبدأت استعد. ذهبت إلى سوق «أم دفسو» في المدينة، اشتريت قميصاً أبيض وبنطالاً أسود، وذهبت قبل الحفل بيوم إلى الحلاق فقصصت شعري.
لقد كان يوم الحفل مشهداً رائعاً في المدينة، امتلأت قاعة السينما وامتلأت ساحاتها الخارجية تستمع إلى المايكرفونات التي أُعدت خصيصاً لمن لم يتمكنوا من الدخول.
دخلتُ إلى المطرب أحمد المصطفى في غرفة المطربين الملحقة بمسرح السينما، فوجدته يرتدي بدلة سوداء وقميصاً أبيض.. فقلت له أنا لقمان أحمد طالب بالصف الأول في مدرسة نيالا الثانوية سأقدمك للجمهور، ماذا تريد أن تقول لهم.. وقف أحمد المصطفى وضمني إلى حضنه يقول «يا سلام عليك يا ابني، قول ليهم أحمد المصطفى بيقول ليكم ما أحلى ساعة اللقاء بيكم هنا في نيالا».
دخلت الفرقة الموسيقية المسرح وبدأت تعزف بصوت منخفض لحن «ما أحلى ساعة اللقاء».. فتقدمت ونقلت إليهم تحية أحمد المصطفى، ثم قلت الكلمات التي عكفت على إعدادها أربعة أيام كاملة؟!!
من هنا كانت رحلتي إلى الخرطوم وكلية الآداب شعبة الصحافة والإعلام في جامعة أم درمان الإسلامية.
ولماذا اخترت الإعلام؟
- هناك أستاذ اسمه محمد نور هو الذي صنع في حياتي حدثاً غيَّر مجرى حياتي في تلك السن الباكرة، ووضعني وجهاً لوجه أمام الإعلام لا كرغبة فحسب، وإنما ممارسة.. كنت في سنواتي الأولى في المدرسة الابتدائية ولسبب لا أعرفه مغرماً بعلم التشريح، كنت ألقي القبض على بعض الطيور وأحاول تشريحها.. كنت أريد أن أرى كيف ينبض القلب وكيف يضخ القلب الدم في الجسم، ثم كيف تحيا المخلوقات بعد فتح الصدر وقفله.. كنت أعيد خياطة صدور الطيور التي أشرِّحها كي تحيا ولكن واحداً منها لم يعش، ولم أتمكن من الوصول إلى نتيجة..
انصرفت بعد ذلك إلى النباتات أعرِّض بعضها للشمس فتخضر وتطول وتثمر، أضع البعض الآخر في الظل فلا تقوى على الاستمرار.. وهكذا آمنت بنظرية التمثيل الضوئي وأهميتها،لا للنبات وحده وإنما لنا بني البشر أيضاً.
أفعل ذلك دون أن أنسى إعداد المادة التي أحرص على تقديمها للجمعية الأدبية مساء الاثنين من كل أسبوع.
أذكر أنني في الصف الثاني أعجبت بنص في كتاب المطالعة اسمه «مريم في القطار»، فقد كانت مريم مسافرة بالقطار إلى مكان ما، وفجأة شب حريق في القطار لتقوم مريم بعمل بطولي أنقذ القطار وركابه من كارثة.
قرأت القصة ليلة الجمعية الأدبية التي يحضرها كل الأساتذة والطلاب وبعض أهالي القرية، فكان ترتيبي الفائز الأول في الإلقاء والشجاعة الأدبية.. والجائزة المرصودة كانت «ستة كراسات عربي بالحجم الكبير» غير أنني تلقيت جائزة إضافية هامة.. فقد قرر الأستاذ محمد نور- وهو يدرِّس في المدرسة الثانوية وليس الابتدائية- أن يهديني مجلداً اسمه «بساط الريح» يتألف من اثنتي عشرة مجلة.. بدأت أقرأ المجلات ولا أتوقف عن قول «آه يا للروعة» قصص عن النبات والحيوان والكواكب السيارة وحكايات من التاريخ وتمارين عن الرسم والتلوين.. أمِن المعقول أن استأثر بذلك وحدي؟! كلاَّ فليشاركني في قراءة كل تلك القصص زملائي في المدرسة.. ومن هناك قررت في الصف الرابع تأسيس جريدة «بساط الريح» الحائطية وذهبت إلى أستاذي في المدرسة «مصطفى حامد مصري» وهو خطاط بارع، ونقلت إليه الفكرة فصمم عنوان الجريدة «بساط الريح- أسسها لقمان أحمد عام 1974م»، ومن ذلك اليوم قررت أن أكون صحفياً.. وظلت بساط الريح تصدر شهرياً دون انقطاع في كل مراحلي الدراسية حتى تخرجت من الجامعة عام 1987م. وعندما أذكر بساط الريح تقف أمامي وعلى الفور ثلاث شخصيات: الأستاذ محمد نور الذي قدم لي أعظم هدية في حياتي، الأستاذ مصطفى حامد مصري الذي صمم الجريدة وظل يكتب خطوطها العريضة طوال سنوات المرحلة الابتدائية، ثم صديقي الذي ظل يكتب خطوطها العريضة طوال سنوات صدورها في جامعة أم درمان الإسلامية.. وأود عبر أستاذي الجليل محمد نور أن أحيي كل معلم يدرِّس حرفاً على امتداد مدارس السودان.. إنهم يقودون عملاً رائعاً نبيلاً.
الأعمال التي مارستها بعيداً عن الإعلام.. وما قصة المراسلة التي امتهنتها؟
- امتحنت لللشهادة السودانية عام 1982م وأحرزت نسبة 55% في المائة، لم تكن كافية حينها لقبولي في شعبة الإعلام في كلية الآداب جامعة أم درمان الإسلامية، قررت القدوم إلى الخرطوم والامتحان مرة ثانية.. نصحني أخي ابن خالتي الطيب محمد أن امتحن من منازلهم على أن يقوم هو بتدريسي مادة الرياضيات، ولأخي الطيب فضل كبير في تعليمي منذ المدرسة الابتدائية.. فعندما كنت في الصف الأول ابتدائي ولأسباب لا أعلمها كنت أجيد كتابة كل الحروف العربية عدا حرف الواو، وأخي الطيب هو الذي سهر معي الليالي يعلمني كتابة حرف الواو حتى تجاوزت تلك المعضلة الغريبة.
كنت في حاجة إلى عمل لأغطي بعضاً من نفقات الإقامة في الخرطوم، ذهبت إلى الاتحاد الاشتراكي وهناك أرشدني أخي المرحوم السلطان حسين أيوب علي دينار، الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس هيئة مجلس الشعب في الاتحاد الاشتراكي، أرشدني على وجود وظيفة مراسلة في مكتب رئيس الهيئة الدكتور مالك حسين حامد.. عينت في الوظيفة فوراً اتقاضى مرتباً قدره ستة عشر جنيهاً كافية لإعانتي على نفقاتي القليلة.
كان يدير مكتب الدكتور مالك حسين في الاتحاد الاشتراكي رجل أديب وقارئ نهم للروايات والأشعار هو المرحوم الأستاذ أحمد سعيد.
من بين مهامي كنت أقوم بنظافة المكتب وإحضار المياه والشاي والقهوة والإفطار وإرسال الخطابات الصادرة والواردة من وإلى المكتب.. كنت في أغلب أيام الأسبوع أُرسل لإحضار الفطور من الأماكن الشهيرة التي تجيد إعداد الفول والسمك في قلب الخرطوم، ونظراً لكثرة الطلب كان يوضع في صينية كبيرة لا أقوى على حملها بيدي فأضعها على رأسي..
و بطبيعة عمل هيئة مجلس الشعب فإن مدير مكتب الرئيس يكلف بمهام تتطلب وجوده ساعات طويلة خارج المكتب.. و كان أحمد سعيد حينما يخرج من المكتب وبرغم وجود عدد من السكرتيريين يطلب مني الجلوس في مكتبه والرد على المكالمات وإيصال الرسائل المهمة الكتابية والهاتفية إلى رئيس الهيئة، فأتاح لي ذلك الإلمام بطبيعة تلك الوظيفة.
في أحد الأيام عام 1982م وبينما كنت أهم بجمع أواني الفطور من داخل مكتب رئيس الهيئة الدكتور مالك حسين حامد، رأيته فجأة ينهض واقفاً ويقبل نحوي غاضباً «انت عايز إيه بالشغلانة دي إنت مفروض تكون في المدرسة أو الجامعة!! إيه اللي جابك تشتغل الشغلانه دي».
أجبته بهدوء «سيادتك أنا معاي شهادة سودانية بس ما دخلتني الجامعة والآن أنا طالب أعد نفسي للامتحان مرة أخرى».
صاح الدكتور مالك في وجهي «أنت معاك شهادة سودانية؟» أجبته نعم. فأخذني من يدي وخرج بي إلى مكتب المدير أحمد سعيد يسأله إن كان يعلم أنني حائز على الشهادة السودانية فأجابه بنعم فقال «فوراً يعين المراسلة لقمان مديراً لمكتب رئيس هيئة مجلس الشعب»، ثم أصدر قراراً آخر بنقل أحمد سعيد إلى إدارة أعلى في الهيئة.. وتحولت من مراسلة اتقاضى ستة عشر جنيهاً حينها إلى مدير يتقاضى مائة جنيه، وقد كان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت.
بعد عدة أشهر امتحنت للجامعة وتم قبولي بشعبة الإعلام في الجامعة الإسلامية، هنأني الدكتور مالك وطلب مني مواصلة العمل والدراسة.. بعد الدكتور مالك عُين الأستاذ يس عمر الإمام مديراً لهيئة مجلس الشعب وظللت أدير مكتبه حتى اعتقله نميري في الليلة نفسها التي كنا فيها داخل المكتب بالاتحاد الاشتراكي عندما قام باعتقال كل قيادات الإخوان المسلمين قبل سفره إلى أمريكا والذي لم يعد منه إلا رئيساً سابقاً.
بعد اعتقال الأستاذ يس عمر الإمام تم تعيين المرحوم النائب محمد حسن خيري من اتحاد العمال رئيساً للهيئة وبقيت أدير المكتب حتى قيام حركة أبريل 1985م تلك هي قصة المراسلة. أما الأعمال الأخرى التي مارستها، فبعد حركة أبريل 1985م طلب مني السيد/ محمد حسن خيري أن أدير شؤون العاملين في المؤسسة المركزية التعاونية للعمال التي يرأس مجلس إدارتها، لم تكن لي خبرة بالوظيفة وكل العاملين فيها وفي مجالاتهم المختلفة يفوقونني في الخبرة والمؤهل العلمي، ولكنهم جميعاً شجعوني على أدائها لأن المؤسسة قررت عزل مدير شؤون العاملين بصورة مفاجئة، فقلت لهم ضاحكاً إذاً اعتبروني مديراً لتسيير الأعمال، فبقيت في الوظيفة حتى تم تعييني مذيعاً بالتلفزيون في يناير 1987م، وكان ذلك قبل التخرج من الجامعة بثلاثة أشهر.
أشخاص تركوا بصمة في تكوينك واكتسابك الخبرات؟
- على المستوى الأسري ربتني والدتي الحاجة فاطمة آدم مكي، فقد توفي والدي وأنا صغير.. كانت أمي حريصة أن أكمل كل المراحل الدراسية حتى الجامعية، كانت تفلح الأرض وتربي الأبقار كي تهيئ لي البيئة التي تمكنني من الاستمرار بنجاح، ثم تكثر من الوصايا عندما يحين موعد عودتي من القرية إلى المدن في نيالا والخرطوم للدراسة.
أما مهنياً فيأتي الأستاذ أخي عمر الجزلي في المقدمة، برغم فارق السن فقد شاءت الأقدار أن ينضم إلى شعبة الإعلام في الجامعة الإسلامية في السنة نفسها التي التحقت فيها بالشعبة عام 1983م، فصرنا «دفعة» ومن هناك بدأت القصة.. كانت شقته بحي البوستة «استديو إذاعي كامل» يمتلئ بأجهزة الريل والمايكرفونات والأشرطة.
أتذكر أننا في أحد أيام فبراير عام 1984م كنا داخل شقته نستذكر الدرس استعدادً للامتحانات، وكنت أقرأ مادة التحرير الصحفي، وفجأة طلب مني التوقف وقال لي إن صوتك هذا هو صوت مذيع، وقدم لي مادة خبرية وطلب مني القراءة ومن هناك بدأت رحلة التدريب حتى قبل أن أتقدم للاختبار.. حرص الأستاذ الجزلي في تلك المرحلة أن أرافقه في كل اللقاءات التي يجريها مع ضيوفه قبل تسجيل حلقات أسماء في حياتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.