عندما رد عليّ السيد اللواء فيصل علي صالح وزير الداخلية بقوله (أنا قبلان سؤالك لي أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وأنا برضو ح أسألك أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن الكلام العندي هنا) ودق معها بأصابع يده المضمومة على غطاء حقيبته السمسونايت التي كانت موضوعة أمامه على المنضدة.. وفي اللحظة ديك عرفت إني خلاص.. استحميت.. وباي باي شرطة!!. قالت لي الهيفاء.. ما رأيك في قول الشاعر: نقل فؤاد حيث شئت من الهوى...ما الحب إلا للحبيب الأول فقلت لها: إنه رأي شاعر وقد يكون صحيحاً، ولكنه قطعاً ليس صحيحاً على إطلاقه؛ لأن شاعرنا السوداني المبدع قد قال: عرفت الحب من قبلك مرة.. وإنت الحب العاش في كياني. الحب أجمل وأنبل عاطفة إنسانية غرسها الله سبحانه وتعالى في قلوبنا، لتمنحنا السعادة والطمأنينة، وتجعلنا نحس بآدميتنا وبوجودنا.. والحب (خشم بيوت) وتتعدد أشكاله من حب لله ورسوله.. وحب للوطن وللأهل والأصحاب .. إلى حب لإمرأة يزلزل كيانك.. وهناك حب شفيف جميل يتخللك تخلل الماء للعود الرطيب.. حب لا يدرك كنهه إلا أهله، ذلك هو حب الشرطة.. فالإنتماء للشرطة يغمرك بحب عجيب لا فكاك منه، وكما يقول أستاذي وصديقي الفريق إبراهيم الكافي إن (حبه للشرطة- يزداد قوة كلما نظر إليها وإلى مجتمعها الطيب من بعيد)، فهو حب يتسامى فوق جراحات الفصل منها، ليجعلك أكثر قرباً وأشد التصاقاً بأهلها من ذي قبل، فكلما بعدت إزددت إقتراباً.. في أكتوبر من عام 1989م وثورة الإنقاذ قاسية في بدايتها، توجس العديد من ضباط الشرطة تخوفاً من حكومة العسكر الجديدة، بعد أن عاشوا ردحاً من الزمن في عسف مايو التي ما قدرت الشرطة حق قدرها، و كان أن خرجت ثلاث مذكرات من شرطة مديرية الخرطوم، وإدارة الأمن العام، وشرطة الاحتياطي المركزي، كتبت لعناية الفريق شرطة عثمان الشفيع تطالب بعقد اجتماع مع وزير الداخلية الجديد، لوضع خارطة طريق لمسار الشرطة في العهد الجديد.. غير أن السيد المدير العام تباطأ في الرد إلى أن وصل الخبر إلى مسامع السيد اللواء فيصل علي أبو صالح وزير الداخلية زمنذاك، والذي بادر بالتوجيه بعقد اجتماع مع ضباط الشرطة بتاريخ 17/10/..89 عندها نشط عدد من الضباط لترتيب الصفوف وتوحيد الخطاب في اجتماع الوزير.. فكان أن أعدت مذكرة تحتوي على تسعة مطالب كان على رأسها قانون المعاشات واللائحة المالية، وقانون الشرطة، والدعم اللوجستي، وشروط إنهاء الخدمة وما إلى ذلك، ومع المذكرة وزعت طلبات خلو طرف من الخدمة ليقدمها الضباط في حالة عدم الاستجابة من الوزير، وللحقيقة والتاريخ كان ذلك التحرك مهنياً بحتاً نابعاً من مسؤولية الضباط تجاه أنفسهم، وتجاه قوات الشرطة، إلا أن تزامنها مع إضراب الأطباء وتحركات سياسية أخرى كانت متوقعة أعطاها صبغة سياسية، ولكنها كانت في حقيقتها غير ذلك، ولعل سوء التوقيت وحده هو الذي جعل حكومة الإنقاذ تتعامل بغلظة مع ذلك التحرك، فقد كانت الإنقاذ في بداياتها كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث. وقبل الاجتماع حضر إلي الأخوان محمد عبد الله الصائغ، وماضي أحمد محمود، وسلماني مجموعة من طلبات خلو الطرف لتوزيعها على الضباط برئاسة الشرطة، ليحملها بعد ذلك المرحوم العميد شرطة عثمان يوسف للاجتماع، فأديت ما كلفت به وكانت كل التحركات مرصودة ومن الداخل..ما كنت راغباً في الحضور للاجتماع إلا أن صديقي اللواء طيار (م) عمر رجب مر عليّ مبكراً وأصرَّ عليّ للذهاب.. فتوجهنا معاً للاحتياطي المركزي حيث وجدنا الصيوان المعد للاجتماع قد امتلأ، فجلسنا في الصف الثالث من الأخير.. وبدأ الوزير حديثه بقوله: (أنا عندي كلام سر عايز أقوله والما بحفظ السر مايقعد معانا)، وتفاجأ الضباط بالعميد عثمان يوسف عليه رحمة الله.. ينهض ويضع كابه على رأسه ويحيي وينصرف.. وواصل الوزير حديثه حتى النهاية، وفتح الباب للنقاش، فرفعت يدي، وأشار الوزير في اتجاهي فوقفت ونظرت للخلف لأتأكد بأني المعني فقال لي (أيوه إنت)، فتقدمت بضع خطوات للمايكروفون.. أديت التحية العسكرية وقلت ( السلام عليكم) وفاجأني السيد الوزير بقوله (وعليكم السلام.. اتفضل يا عثمان حسين قول كلامك)، فضحكت ضحكة لطيفة وقلت له ( قبل ما أقول كلامي يا سيادتك.. أنا وإنت.. ما اتلاقينا قبل كده، وما ممكن سيادتك من المسافة دي تكون قريت اسمي.. عرفتني كيف أنا عثمان حسين) فقال لي: أيوه أنا بعرفك إنت مش المقدم طيار عثمان حسين من شندي مربع 1 وكنت ساكن في السجانة وعندك عربية أدوبل بيضاء) فقلت ( الكلام ده كله صاح لكن برضو أنا وإنت ما اتقابلنا قبل كده ويبدو إنه عندك معلومة عني، وأنا عايز أعرفها قبل ما أتكلم) عندها نظر اللواء فيصل للحضور وقال ( يا خوانا أنا هسي قلت حاجة واللا الحرامي في رأسو ريشه)، وهمهم بعض الضباط بقولهم ( ما توريهو يا سيادتك) فقال ( أنا ما بوريهو.. هو عارف.. وأنا عارف.. والده عارف) فقلت له ( أنا ما عارف أي حاجة وأنا ح أسألك أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن كلامك الإنت عارفه ده). عندها رد علي السيد اللواء فيصل علي أبو صالح وزير الداخلية بقوله الذي أوردته في صدر هذه الخلاصة.. ودخلت بعدها في حديثي الذي لم يخرج عن المطالب التسع التي أجمع عليها الضباط.. وتواصل النقاش وقد كان أقوى المتحدثين أخونا محمد عبد الله الصائغ الذي ألهب الأكف بالتصفيق، ومن بعده المقدم الحمري الذي تحدث صراحة عن ظلم العسكر للشرطة، وكذلك المقدم تاج السر محمد حسين.. وبعد أسبوع من الاجتماع أحلنا للمعاش في كشف شمل أكثر من ستين ضابطاً، وفي اليوم الثاني للإحالة تمت ترقية دفعتنا إلى رتبة العقيد.. وأجيزت لائحة الشرطة المالية في اليوم الذي يليه، وفي اليوم الثالث أجيز قانون المعاشات، وتواترت الخيرات على الشرطة، ولم يكن لنا نصيب منها، وبذلك نكون قد دفعنا ثمن ذلك الحب الشفيف الذي خبرتكم عنه، ونحن غير نادمين على ذلك ويكفينا فقط أن أخانا سفيان إبراهيم عمر كان قد رفض أن يرتدي رتبة العقيد لأكثر من أسبوع، وقال قولته الشهيرة ( أنا ما بلبس كفن زملاي ودي ترقية مدفوعة الثمن)، وكان مصراً على تقديم استقالة لولا ضغوط زملائه حتى استجاب لصوت العقل.. وهكذا تتواصل مسيرة الشرطة ويتواصل معها الحب.. ومن الحب ما رفت!.