أن تسافر إلى أية ولاية من ولايات السودان فإنك لا تسافر عبر المكان فقط وإنما عبر الزمان أيضاً.. ولأنني لست ب«أنشتاين» فلن أقحم نفسي في تذييل هذه العبارة بأية شروح إضافية أو سرد إيضاحي وأكتفي بما ترسله من إشارة وقَّادة، إذ أن اللبيب يكفيه عن جلي العبارة خفي الإشارة لكي يصل إلى تخوم المعاني، رغم ما قد يعاني من كثافة الرموز وتعقد الألغاز.. ولئن بدت رحلتنا إلى بحر أبيض هذه المرة مشحونة بوشائج كثيرة ومتداخلة وأمشاج متباينة من الأحزان والأشجان، ليس أقلها أننا نُيمم شطر الجذور بعد غيبة طويلة، رغم أن جذورنا فيها طفيفة وطارئة وطريفة ولا تضرب بأطنابها في الأعماق الغائرة ككثير من الأسر والعشائر، ولكن عزاءنا أن قوة الانتماء لا يحددها بأية صورة من الصور طول البقاء في منطقة ما، وهنا تبرز قيمة وأهمية تساؤلات الفيتوري في رائعته: «يأتي العاشقون إليك يا بغداد»: (.. وهل التراب هو انحباس الروح في فلك الزمان.. وهل الحنين لحيثما اشتعل الحنين هو المكان؟؟ وهل الحقيقة في حقول الموت أم موت الحقول.. وهل انقطاع الوصل في لغة الكمال هو الوصول؟؟ لم يتركوا لك ما تقول!!).. وهذه الأسئلة في إحدى تبدياتها عملية تثوير لمفاهيم أنسنة الهوية وتنزيلها من علياء اليوتوبيا إلى عوالم الناس.. ولعل مثل هذا الكلام إن قلته في أي مجمع من مجامع السمر هناك لظُن بي الظنون.. فهذه أيضاً هي إحدى السمات الفارقة بين البادية والحضر، أعني الفارق العظيم بين البساطة والتعقيد بين الإسماح والتكلف بين المجبول والمجلوب بين وبين.. وهي إحدى جواذب السفر إلى البادية رغم ارتسافها في بؤر الإهمال الذي يزداد إعمالاً، في مقابل تسارع وتيرة التطور في حاضرة السودان وثغره البسّام.. ورغم إحاطتي بمشاعر متناقضة «آمالاً وآلاماً».. ألماً من فقد والدنا الحبيب.. وأملاً في لقاء الحبيب، ولا غرابة فكلنا كما قال ذو الأصبع العدواني «إما مسرور بموجود أومحزون بمفقود».. تراءت لي شواهد المجد القادم من حُجب التاريخ ليسقط على تراب الجغرافيا رغم جفائها وارتهانها لتضاريس معقدة.. وقد بدت القطينة التي أرهقها جور الجوار في أبهى حُلة، وظهر على مُحياها تفاصيل تنمية خجولة، إذا قيست بماضيها جاءت النتيجة سلباً وخصماً من رصيد بلدة كانت تحتفل قبل أعوام بعيدها المئوي في مضمار التعليم، فقد أخرجت لنا الرواد في كل مجال ومصال، فمؤسس الحركة الإسلامية «الشيخ طالب الله» ترعرع في ثراها، وسكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أخذ المشعل النضالي من الرعيل الأول «نقد» لم يزل يازر إليها كما تأزر الحية إلى حجرها، وصلاح أحمد إبراهيم «المثقف العضوي» كما يحلو لغراميشي استقى من نبعها فيوض الشعر والإلهام، ومحجوب عبيد «العالم الكبير» الذي صار في ما بعد «ثورة معرفية جبارة»، ضاق بها العلم التجريبي المرتهن للمشهود والغائب عن الغيب الرحيب «تمشى في أقتها وحاراتها».. القطينة المنظور لها بهذه العين هي ليست مدينة عادية، إنها حالة من العشق الشفيف والشجن والإبداع المتفجر الخلاق، ولذا فهي لا تستحق منا الجفاء والإهمال بوصفها مصنعاً من مصانع الرجال والجمال في سوداننا الحبيب.. وما أن سرنا «تحدونا الأرواح إلى بلاد الأفراح» إلاّ ولاحت لنا نعيمة «الشهيد عمر نور الدائم»، ومن ورائها كل قرى الحسانية الذين باتوا يحسنون سباقاً آخر مع الزمن ومصاولة الأقدار، «يطلبون يد المعالي وليس المعاش»، ولذا فهم موعودون بمجد طارف يماثل مجدهم التليد.. وتلك ود الزاكي تزهو بكثبانها الذهبية على أديم طاهر ضم عظاماً.. وما هي إلاّ خطوات بحساب الزمان الشعوري لا الزمان المادي إلا وبدت لنا دُرة النيل الأبيض «الدويم»، وعلى ضفافها اليانعة البليلة «بخت الرضا» ذات الهالة الرمزية العالية، التي رفدت المسيرة التعليمية في بلادنا بأطياف من المعلمين الأكفاء، ورغم محاولة الترميم المتواصل الذي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن داء التردي يسري بقوة الشر في مفاصل البلدة العتيقة.. وقد جئنا لماماً على «كوة النور»، الكوة الغراء، لتحاصرنا الوجوه السمراء والأعين النجلاء.. تحدونا الآمال، إلى «شوال العز».. مروراً بقرى «العافية» موطن العافية.. وأم برد «رغم برودة الطقس وحرارة الأشواق.. والملاّحة» حيث الملاحة تطرد غلواء القبح من روابيها، «وأم فورة المنورة بأهليها الكرام والمفتخرة بالشراكة الحقيقية في ثورة المهدي عليه السلام»، والتي وإن تحول كثير من مبانيها إلى أطلال فإن لمعانيها إطلالة متجددة تُحيي ذكر المثال السالف في الجيل الخالف.. وأولاد ناصر: المنصورة «زهواً وافتخاراً» بخالدها وإبراهيمها وعثمانها وأجيال العظام.. وشيكان التي أدت ما عليها من استحقاق الاسم «مبنى ومعنى» فاكتوت بنار الانتماء واستنارت بنوره الوضاء.. ومرابيع ود اللبيح حيث الكرامة والكرم والإقدام سجية لازمة.. والدبيبات التي رفدت قواتنا المسلحة بصناديد الرجال ثم توالى دفق عطائها يعم كل الساحات.. وتلكم الجزيرة أبا تلوح في أفق الجغرافيا وعليها بقايا ألق من تاريخ حافل، كل شيء هناك في اضمحلال إلاّ التعايش على هدى الدين ودين الهدى، فإنه في تعاظم مُذهل رغم دعوى التهميش وتهميش الدعوة..!! مروراً بحجر عسلاية «أولاد حميدان» الحاملين على أعتاقهم هموم المنطقة، والحالمين بغد أجمل تكتنفه الطمأنينة وتعمه السكينة، وقد سلكوا لهذا الدرب الآمن طرائق التعليم والتطوير.. ثم إلى ربك «صُرة» السودان وإحدى نماذج التعايش النادرة على هدى القيم والمصالح والتجارة.. تلك المدينة المُضرجة بدماء شهيد الحرية محمد صالح عمر ورهطه الكرام، وقد كان لقائي بها محاطاً بدلالات المكان والوجدان.. أعرفتم الآن كيف تسافرون عبر الزمان؟؟!! ولنا عودة