لم يكن أشد المراقبين تفاؤلاً ينتظر من انتخابات أبريل 2010م، أكثر من أن تصبح «محطةً» أو «تمريناً» على طريق التحول الديمقراطي، الشاق والطويل والمتعرج، فبعد عقدين ونيف من نظام الحزب الواحد الحاكم، فإن «الشمولية» التي صعدت بالانقلاب والقوة لا يُترجى أن تترجل من دست الحكم وتغادر السلطة هكذا «بأخوي وأخوك» وتعتمد صناديق الاقتراع حَكَماً وفيصلاً بين المتخاصمين والمتنافسين، لكن المفارقة أن ذلك قد حدث، ليس لرغبة خالصة لوجه الله والديمقراطية من جانب الحزب الحاكم، إنما لأن مجريات الأحداث وتطورات الحرب الأهلية في الجنوب والضغوط الدولية والاضطرابات الداخلية التي شهدها الحزب الحاكم نفسه وانقسامه العمودي إلى فصيلين حاكم «وطني» ومعارض «شعبي» واشتعال الحرب في دارفور قادته إلى أنه لا سبيل للاستمرار في الحكم إلا عبر التنافس الديمقراطي، فكانت «نيفاشا»- اتفاقية السلام الشامل- واستحقاقاتها ومنها الدستور الانتقالي، فقرر خوض الانتخابات كتمرين ديمقراطي لابد منه، وهو واثق بأن نهاية التمرين ستكون لصالحه، لأنه يملك خيل الدولة ومالها ودروعها، ويعلم كذلك ضعف المعارضين وهوانهم على الناس، يعلم فقرهم وتشرذمهم وخلافاتهم التي عمل علناً و «على عينك يا تاجر» من أجل إذكائها وتعميقها حتى أصبح له حلفاء تابعون يحملون نفس أسماء أحزابهم القديمة مع إضافات يسيرة للتفريق بين «الأصل» و «الفرع». في ظل هذا الواقع الماثل، كيف لسياسي رشيد أن يأمل في أن تصبح الانتخابات أكثر من «تمرين ديمقراطي» لإحماء العضلات وترسيخ«المبدأ»، مبدأ التداول السلمي للسلطة على طريق التحول الديمقراطي في بلد لم تشهد الديمقراطية فيه أصلاً دورتين متعاقبتين منذ الاستقلال. لكن المعارضة السياسية بأحزابها الكبيرة وبعض الصغيرة ذهبت إلى نشدان «المثال»- أي الديمقراطية المبرأة من كل عيب- متجاهلة واقع ضعفها وانقسامها فضيعت حتى ذلك القليل الذي كان يمكن أن يشكل لها عبر التمرين الديمقراطي «أقلية برلمانية» ومعارضة ذات وزن يؤبه له ويؤثر في سلوك الحكومة في أول دورة حكم منتخبة بعد سنوات الشمولية المتطاولة، وكأني بلسان حالها- لسان الشاعر الحالم وليس السياسي الحصيف- يقول: لنا الصدر دون العالمين أو القبر. وليت نشدانها «المثال» في عمل المفوضية القومية للانتخابات وفي سلوك الحزب الحاكم، صحبه عمل منظم أو ترتيب لتحالفات حقيقية تمثل ضغطاً فاعلاً على المفوضية والحكومة، فقد كشفت الأيام أن المعارضة تفتقر إلى أبسط الشروط الكفيلة بتشكيل كتلة متراصة ذات وزن مؤثر وفعال. بل تحولت حركتها في المسرح السياسي إلى شئ أقرب ما يكون بحركة المهرجين على مسرح للكوميديا أو الملهاة العابثة، لا تبرم أمراً أو تتخذ قراراً بليل حتى تنقضه صباحاً وتأتي بجديد. لا نريد أن نعود إلى ما هو أبعد، عندما كانت المعارضة تتخذ من المنافي مقراً ومنطلقاً لحركتها العسكرية والسياسية، فتلك قصة أخرى تستحق التوثيق بكتابة «المجلدات» وليس «المقالات»، ولكن دعونا نقف عند آخر محطة لمحاولة لملمة شعث المعارضة والاستعداد للانتخابات، ففي الأسبوع الأخير من سبتمبر من العام الماضي، تداعت قوى المعارضة إلى عاصمة الإقليم الجنوبي جوبا بدعوة من الحركة الشعبية، وفي خاطر الجميع تشكيل تحالف لمواجهة ثلاث قضايا رئيسية تؤرق البلاد، هي التحول الديمقراطي عبر الانتخابات، حل أزمة دارفور، والحفاظ على وحدة البلاد وجعلها جاذبة. وفي القضية الأولى(التحول الديمقراطي)أو ما سمي ب«محور التحول الديمقراطي» اتخذ المجتمعون في جوبا- من دون أي اعتراض أو تحفظ- قراراً بأن «يكون تعديل القوانين عبر تدابير سريعة وفي موعد أقصاه 30 نوفمبر 2009 شرطاً لمشاركة القوى المشاركة في المؤتمر في الانتخابات القادمة»، ولم يمض شهر واحد على عودة تلك الأحزاب- أحزاب الإجماع الوطني- إلى الخرطوم، حتى قرروا تمديد الموعد «المضروب» إلى يناير، ومضى يناير وفبراير ومارس والقوم مبهوتون لا يعرفون ماذا يفعلون، فانخرطوا في العملية الانتخابية وسموا مرشحيهم للرئاسة وحكام الولايات والمجالس التشريعية القومية والمحلية وانخرطوا بكلياتهم وعلى قلة حيلتهم المالية واللوجستية في الانتخابات، وعندما اقتربوا من «ميس الاقتراع» وصندوقه تداعوا مرة أخرى في أول أبريل- بعد عدة تأجيلات- وقرروا في بيان تناقلته وسائل الإعلام وسارت به ركبانها المحلية والدولية مقاطعة الانتخابات على مستوى الرئاسة، وذلك بعد مرور يوم واحد على إعلان الحركة الشعبية سحب مرشحها للرئاسة مع الإبقاء على مشاركتها في جميع المستويات الأخرى فيما عدا دارفور، مع إعلان استعدادها لمؤازرة حلفائها في «الاجماع الوطني» إذا ما قرروا الانسحاب الشامل من كل المستويات، ولن تكتمل الصورة إلا إذا ذكرنا أن مقاطعة الانتخابات الرئاسية لم تكن كاملة من فرقاء «الاجماع الوطني» فقد قرر بعضهم الاستمرار في السباق، وهم المؤتمر الشعبي والتحالف الوطني والمؤتمر السوداني. وليت الذين قاطعوا، رسوا على بر، فالمتابع للأخبار وما تنشره الصحف السياسية السودانية لابد أن يُصاب بالدوار والغثيان جراء الحركة الدائرية السريعة التي تتبدل فيها المواقف من مقاطعة ثم مشاركة ثم مقاطعة جزئية أو كلية وهكذا دواليك، فها هي صحف الأمس القريب (الأحد) تحمل عناوين بارزة تقول «الأمة والاتحادي الأصل يخوضان الانتخابات في كل مستوياتها»!! و «معلومات عن تفاهمات بين (الوطني) وأحزاب كبيرة»!!- الصحافة الأحد 4 أبريل- الأمر الذي يجعل محاولة تتبع الأخبار نوعاً من ممارسة «تعذيب الذات» أو الماشوسيزم كما يقول الانجليز. خلاصة الأمر، إن السلوك المرتبك والمضطرب والمتناقض قد زاد من ضعف المعارضة وبدد حتى القليل الذي كان بإمكانها أن تحصده من هذا «التمرين الديمقراطي» لأن ارتباكها قد أربك جمهور الناخبين المتعاطفين وعزز قناعة بعضهم أن هذه الأحزاب تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية الناضجة وإلى التنظيم وإلى التكتيك الحصيف الذي يمكنها من خدمة أشواقهم في التغيير. أما انسحاب مرشح الحركة الشعبية المفاجئ الذي استبق به الجميع فتلك قصة أخرى سنعود لها في حينها عندما تتوفر المعلومات.