بدا لي الصديق القديم حيدر بابكر المشرف وهو يحضر ويعد ويكتب دراسته الاستراتيجية الاستثنائية الموسومة (جنوب السودان.. الحرب الثالثة تطرق الأبواب)، في حال من يفرغ نفسه لانجاز مهمة جليلة يوظف لها كل قدراته ومعارفه، ويعتصر عقله وقلبه ويدقق في كل كلمة، حتى يقول لنخب بلاده وحكامها وشعبه آخر ما عنده لإنقاذ وطن يقف على حافة الهاوية.. وهي الدراسة أو (الورقة) التي لم تجد في صحافتنا ما تستحقه من اهتمام، فهي ليست مقالاً أو مجرد مساهمة مكتوبة أو مجموعة خواطر عنَّ لصاحبها أن يسجلها وينشرها، بل دراسة تنطوي على معانٍ كبيرة ومعلومات موثقة، ومقترحات وحلول، انبنت على تحليل عميق، ومتأمل لواقع وطن يعيش لحظة تاريخية فارقة، مقترحات وحلول يحتاجها الوطن، وصانعو القرارات فيه، للاستنارة ولرسم خارطة طريق تتوخى الواقعية والحكمة، لمواجهة ما تحمله هذه اللحظة من تحديات ومخاطر يشيب لهولها الولدان. ومن باب رد الفضل لأهله، عليَّ أن أسجل أن من نبهني لأهمية هذه الدراسة هو الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، إثر زيارة له برفقة د. الواثق كمير عضو مجلس تحرير الحركة الشعبية، الذي التقى الإمام كفاحاً للمرة الأولى للتفاكر في شؤون الوطن وشجونه، والمخاطر المحدقة به، فالإمام أهتم اهتماماً شديداً بالخلاصات التي انتهت اليها ورقة المشرف، فاستشهد بها مرة في ندوة منبر الصحافة والسياسة، التي خصصت لمناقشة الأزمة بين دول حوض النيل، ومرة أخرى في آخر مقال له في الصحافة السودانية في التاسع من يونيو الحالي بعنوان: (القضية ليست الوحدة أو الانفصال.. بل القضية السلام أو الحرب) مستشهداً بقول المشرف- الذي وصفه ب ( الخبير العسكري): إن 70% من الحروب تاريخياً كان من الممكن تجنبها لو توافرت الحكمة والإرادة السياسية.. مشيراً إلى ما أكدته دراسة المشرف بأن الحرب القادمة بالغة الأذى، وسوف تتيح للطيران والمدفعية المعادية أهدافاً بشرية، ومنشآت أكثرها في الشمال. ورقة المشرف، التي زودني بنصها عبر بريدي الإليكتروني ? مشكوراً- الأستاذ محمد زكي السكرتير الإعلامي للإمام الصادق، استحقت عندي العرض الوافي، والتعليق لخطر القضية التي تعالجها، والظرف الموضوعي الذي أُنتجت فيه، ومحاولتها المخلصة للإجابة على السؤال الحاسم ( أن نكون أو لا نكون )- بحسب التعبير الشهير للروائي الانجليزي الأشهر وليم شكسبير: To Be or Not To Be. الدراسة بحسب قراءتي المدققة والمستعادة لها، تنقسم إلى جزءين أو مدخلين، مدخل سياسي ومدخل عسكري- استراتيجي، رأيت أن أبدأ بالمدخل الأول- وهو المدخل السياسي، الذي يبدأ به المشرف ورقته ويختمها به كخلاصة أو Conclusion وكأنه أراد أن يجعل من (السياسي) غلافاً يؤطر ما هو (عسكري)، أي الحرب التي (تطرق الأبواب) بحسب عنوان الورقة. وأجدني متفقاً اتفاقاً يقترب من تطابق وجهات النظر مع جل ما ذهب إليه العميد حيدر المشرف- الضابط السابق في القوات المسلحة والمثقف الكبير، الذي (تعب على نفسه)، وحيدر كما عرفته منذ ميعة الصبا وزهوة الشباب، شخصية طابعها الجدية، والحزم، والصدق، والطيبة الممزوجة بالحذر العقلاني. وانعكست كل تلك الخصال على دراسته الاستراتيجية، وجعلتها تأتي بهذا الشكل والنهج الذي أتت عليه، والذي سبقت الإشارة إليه. ولنبدأ باستعراض المدخل السياسي لورقة المشرف، والذي بدأه- عامداً- باستشهاد ذكي لينفيل شامبرلين (1939) يقول فيه: (يحتاج السلام دائماً إلى طرفين، ولكن طرفاً واحداً فقط يمكنه إشعال الحرب)، والإشارة هنا واضحة لما هو مرجو من شريكي اتفاقية السلام الشامل السودانية، ليذهب من بعد لتشخيص شامل لبواعث الصراع في السودان، باعتباره (كم تراكمي لمجموعة من المتناقضات السياسية والايدولوجيات المتباينة، والمواعين العقائدية الضيقة، والموارد الشحيحة وخطل القيادات والنخب، وأوهام التفوق عند الأكثرية العرقية والدينية، والشعور المتعاظم عند الأقليات بالظلم والتهميش وعدم المساواة، وضمور فرص التقاضي العادل والحاسم والناجز للمظالم التاريخية الممتدة).. وبرغم أن العميد المشرف لم يمتهن (الكتابة) كصنعة راتبة، إلا إنني يمكن أن أقول جازماً إنني لم أجد في كل ما قرأت حول الأزمة السودانية تلخيصاً جامعاً مانعاً كهذا الذي أتى به المشرف في جملة طويلة واحدة، أو مجموعة جمل قصيرة متتابعة، حملتها هذه الأسطر القليلة، فكفى القارئ شر التطويل والتشتت. هذه الأزمة، وفقاً لمعطيات الواقع الراهن قد تقود إلى الحرب من وجهة نظر حيدر، والحرب- عنده- لا تبدأ فجأة، ولا تنتهي فجأة، وهي أصعب الخيارات لدى الزعماء والقادة، لما يترتب عليها بالنسبة لذواتهم وعلى سلطتهم وعلى أوطانهم، وأن أكثر الحروب كان من الممكن منع وقوعها، إذا ما كان صناع القرار يتحلون بالحكمة، وبُعد النظر، والقدرة على تجاوز الصغائر، والارتقاء بالصراع إلى آفاق التسامح، والاعتدال والجنوح إلى السلام، والحوار مع الآخر، والحرب عنده أيضاً- يتم استدعاؤها لحسم الصراعات إذا كانت الدولة ضعيفة في مواردها البشرية، وتحيط بها دول قوية وطامحة وراغبة في الاستئثار بالنفوذ، والتطلع إلى الموارد والثروات الطبيعية، التي تحويها أرضها، والصراع العسكري بين جنوب السودان وشماله الذي أندلع منذ أغسطس (1955) لا يبتعد كثيراً عن أسباب الحروب الأهلية في العالم، خصوصاً بالنظر ل ( التباين الإثني والثقافي والديني)، الذي كان ولا يزال واحداً من أقوى الأسباب لاندلاع الحرب أو التهديد باندلاعها مستقبلاً، على الرغم من (البُعد الخارجي)، الذي لا يمكن إغفال دوره في تغذية أسباب الصراع، إلا أن البعد المحلي يبقى أقوى المسببات، بُعدٌ يتمثل في الغبن التاريخي والتهميش، وتدني الأمن والخدمات، والبني التحتية، وسياسات القمع المنظم، تحت مختلف الشعارات الدينية والسياسية والاجتماعية.. لكن مع ذلك يورد المشرف ملاحظة مهمة، من قبيل الانصاف ليؤكد أن الجنوبيين أيضاً يتحملون جزءاً غير يسير من تبعات تلك الحروب واستمرارها، ويرى أن حمل السلاح في معالجة قضايا تفاوضية لا يمكن، إلا أن يقود إلى حمل سلاح أكثر فتكاً من طرف آخر.. كما أن (جلد الذات)، الذي يمارسه عدد ( لايستهان به من الشماليين في الأحزاب اليسارية، ومنظمات المجتمع المدني، يغفل عامداً الجهود المخلصة التي بذلت من عدد من الحكومات والمؤسسات والأفراد في إيجاد حلول سلمية للصراع). ينتقل المشرف من ثم لمناقشة اتفاقية السلام الشامل ودورها في وقف الحرب، ومحاولتها لتأسيس جملة من المبادئ حول (كيف يحكم السودان)، ولحل قضاياه المعقدة والمتراكمة، لينتهي إلى القول بإن الاتفاقية فشلت فشلاً ذريعاً في بلورة (بيئة إنسانية واجتماعية) تمثل الأرضية المناسبة لوأد أسباب الصراع ودوافعه في المستقبل. والمشرف، كما سبقت الإشارة، يختتم دراسته بطرح سؤال جوهري حول (ما هو الحل؟) لتفادي حرب وشيكة ومدمرة، تأخذ الأخضر واليابس، ولا يسلم منها طرف دون آخر.. مشيراً في الوقت ذاته إلى قول البعض بإن (هذه الحرب ليست حتمية)، أو أنها ليست قدراً لا يمن تفاديه، ويوافق على مثل هذا القول، ولكنه يشترط لذلك (إحداث اختراق عميق في الاستفتاء القادم في يناير 2011م على مصير جنوب السودان، وهو أمر ممكن- كما قال- إذا بدأنا بالمعالجة منذ الآن، وأمامنا ثلاثة خيارات هي: وحدة جاذبة، أو انفصال مبرمج، أو انفصال متوتر، سيقود إلى الحرب لا محالة.. كيف ستكون هذه الحرب؟ ومسارحها وآلياتها؟ هو ما يفصِّله حيدر المشرف في المدخل العسكري الذي سنقف على رؤيته لها في الحلقة القادمة، مع الحلول التي يقترحها لتفادي غوائل الحرب وشرورها .. نواصل