(إن هيجاناً حقيقياً ومستطرداً قد قام في السنوات الأخيرة حول الهوية، في نفس اللحظة التي تعرض فيها المفهوم لنقد لاذع، وهناك ما زاد النار اشتعالاً)، هذا(الهيجان) ليس متعلقاً بمباراة مصر والجزائر وإن كانت بعض القنوات المشفقة على (هويتنا) اعتبرته كذلك كما سنرى. هو اعتراف لباحث من أوربا مشغول بتأثيرات العولمة، انتزعتني أفكاره مما كنت فيه لأسترجع مناظرات ساخنة شهدتها في الأيام الماضية وهي نفس الأيام العصيبة التي شهدت حوادث دخيلة على المجتمع، كما شهدت مجاهرة بأحاديث الانفصال وكأنه (تحصيل حاصل) حتى أن مقالات حذرت من أن انفصال الجنوب سيساعد على انتشار أفكار أقلقت العالم وستقلق أهل السودان حتماً في غياب الوحدة والديمقراطية، فأين (هويتنا) من كل ذلك؟ من المفارقات وهذا ما يطمئن، حفلت محافل أخرى حول (هويتنا) بشواهد من (أصول) اجتماعية مشتركة بين غالب أهل السودان، فمن تحدثوا للتعريف بأنفسهم أمام غيرهم يتجاوزون تصنيفات القبيلة والجهة للقول بأنهم تجمعهم (القبلة)، أي الروابط الروحية التي تسمو على الظنون والمتغيرات. هذه الإشارات اللافتة حول الهوية السودانية بدأت تتجدد بمداخل علمية. حضرت مناقشات جريئة لبحث (دكتوراة) حول تأثير القنوات الفضائية والعولمة على(هويتنا) وفي مقام آخر لاحظت حضوراً تلقائياً في ملتقيات اجتماعية (الرأي العام 16 نوفمبر بعنوان «عائلات تصنع الوحدة»). ومازلنا نشهد مؤتمرات ومنتديات تنزع للمناصحة وتأخذ بلغة الشفافية وتنطلق من خوف دفين على مصير الوحدة التي كم تناجينا بمآثرها واستعصمت بها الدساتير منذ رفع العلم. هذا السياق المتواتر لا يصرفنا عن ما يتردد حول مهددات(هويتنا) اليوم: (الانفصال، العولمة والإعلام). وقد يرى البعض أن هذه المهددات نفسها هي مقومات التداوي، وعلى طريقة (داوني بالتي كانت هي الداء)، المهم أنها لا تلغي التفكير الراشد والمبدع حول ما هو مشترك. إن الغيرة على شيء مشترك(يجمعنا) تبرر الصبر على التفاوت والتناقض فى الآراء، ولعلنا في هذا الخضم من المكدرات والمحفزات (معاً) نستدعي حزمة من النداءات الصريحة المخلصة المتاحة، منها خطابنا الإعلامي (التنوع كأساس للوحدة) ومنها أطروحات ثقافية باهرة للحادبين والمتخصصين في المنتديات والمؤتمرات، وإن كان مصير التوصيات المعروف يشكل تهديداً آخر لشأن الهوية. ماذا كان حظ أطروحة نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان محمد طه في المؤتمر الثقافي الذي عقد مؤخراً؟.. تحضرني الآن دعوته لأبناء الشمال والجنوب إلى (الفكر الراشد المتصل بأسباب الوحي)، معززاً ذلك بقوله:(ما وصله الرحمن لا يقطعه الشيطان)، ثم وجه عدة رسائل إلى (أهل الرشد في الجنوب) لتقوية هذه الآصرة بصياغة مادة فكرية من معين فضائنا العربي وفضائنا الأفريقي. واستبطنت هذه الرسائل دعوة إلى (الوحدة في إطار نظر بعيد، وليس سياسياً وإحداث نهضة حضارية علمية تقنية تقوم على البعث الديني المستمد من الرسالات وتهييء السودان لإطلاق صاروخ الريادة). ماذا يقال خارجياً؟.. إن الحذر من (الثقافات المسيطرة) هو المسيطر، فوسائط الإعلام والتكنولوجيا أصبحت تستخدم بقصد هذه السيطرة عبر القنوات الفضائية، فمؤلف كتاب (التلفزيون والعولمة والهوية) واسمه (كريس باركر) يقول إنه يجب الاعتراف بأن نزعة التحرر من الإقليمية والتدفق المفرط للأصوات والصور عبر الشاشة يؤثر في المشاهد، فما كان يعتبر (دخيلاً) أصبح في متناول اليد عبر الإعلام والأسواق المفتوحة. إن الأصوات الحادبة على (كيان) البلدان الحرة تحذر من ما هو دخيل ومدسوس و(يزيد النار اشتعالاً) كما أوردنا لباحث أوربي في مستهل هذا المقال، وهو قد ضرب مثلاً للاستلاب وتهديد هوية الآخرين، فذكرنا بما حدث في فرنسا، حيث منع وزير الثقافة عرض مسلسل (دالاس) الأمريكي تخوفاً من تأثيره على المجتمع الفرنسي. إضافة لمحاذير التدخل الأجنبي تحذر الدراسة من عوامل جديدة برزت كطرف في حوار الهوية، منها قضايا ما بعد التحرير والمناداة بالعدالة والتسامح والتضامن والمطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الفئات الخاصة والقضايا الفلسفية والمشاكل اللغوية. إن الخوف يتعاظم على مصير ما بأيدي الناس من مقومات الهوية التي ورثوها أباً عن جد، فالقلق من مغبة التفريط ينهش ضمير الجيل الحالي في مختلف البلدان حتى ليبدو أن هناك صراعاً بين من يمتلكون هوية شاملة ثابتة تخصهم وحدهم وتجمعهم مع غيرهم كأفراد يجتمعون على نسق واحد وبين من يعملون على زحزحة كل ما هو (مركزي). ومحاولة تفكيك فكرة (ما هو مركزي ومستقر وثابت) والترويج لمكيدة (الذاتية المزاحة) والحد من هويات راسخة إلى أخرى قابلة للتغيير، هي مستجدات تشغل الكثير من البلدان التي نشأت في كنف حضارة صنعتها دماء وأمجاد، مما يجعل السودان اليوم معنياً أكثر بهذا الحوار الذي يتجدد على شفا العولمة وسطوة التكنولوجيا والثورة الرقمية والجهر بحديث الانفصال. هل المقصود في النهاية هو طمس هذه الهويات المتراكمة المستقرة بزعم أنها تعيق التنمية وتقاوم العولمة ومشروعها للتغيير؟ هذا النوع من الأسئلة لا ينقطع حول مقومات البقاء في عالم متغير، عالم لا يحتمل موروثاته وهى أسئلة رائجة الآن في إعلامنا وصحفنا ومنتدياتنا، وكان قد جددها نائب الرئيس في المؤتمر حين تساءل في مستهل أطروحته: هل نحن عرب أم أفارقة؟.. أم عرب وأفارقة؟.. والدراسة الأوربية التي أشرت إليها أيضاً تتساءل: هل نحن نتقارب أم نتباعد؟.. نحترم ثقافة الآخرين أم نخشاها؟ الهوية شيء يجب إبقاؤه نقياً أو هي شيء يجب توسيعه بقصد إثرائه من خلال المزج والخلط؟.. ويمكن أن نضيف من جانبنا(هل نترك ما بأيدينا على أمل فى السراب؟). التساؤلات حول الهوية أصبحت عالمياً محل اهتمام ومحور دراسات إستراتيجية وبلادنا أولى بهذا الاهتمام في مواجهة المتغيرات وجدل الوحدة والانفصال، فالهوية الراسخة تصمد أمام المهددات مهما اشتد وطيس القنوات والعولمة وسيطرة ثقافة الغير والتلاوم بأن النخب الحاكمة لم توفر للأجيال الجديدة (مشروعاً) تلتف حوله طيلة ثلاثة عقود من الزمان، كما قال معلق إحدى القنوات العربية وهو يصف ذلك الهياج حول معركة، أقصد مباراة مصر والجزائر. إن (ملف الهوية) سره الأبدي أنه يظل مفتوحاً يقبل الإضافة ويستدعي تميز الأجيال والتباهي بأمجاد الوطن. د . وباحث اعلامي