تناقلت وسائل الإعلام المحلية في الأسابيع القليلة الماضية، على لسان والي ولاية جنوب دارفور د. عبد الحميد موسى كاشا،الإعلان والتوقيع على وثيقة تعايش سلمي بين قبيلتي الرزيقات والفور بمدينة نيالا، وقد كان لهذا النبأ الأثر الطيّب في نفوس كافة المحبين للسلام الاجتماعي. وقد جاءت هذه الوثيقة، ليست كالعادة، حيث معظم إن لم تكن جُل الاتفاقيات القبلية تأتي بعد حرب ضروس واقتتال يخلّف العشرات من القتلى والجرحى وتشريد للأسر وإفساد الأرض. ولكن هذه الوثيقة التاريخية جاءت كخطوة استباقية وعملية وقائية لم يشهدها الإقليم المنكوب منذ عهد طويل، مع إن تلك المعاهدات هي جزء من تاريخ دارفور الاجتماعي والسياسي، ولها أصل في الدين، فقد آخى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بين الأنصار والمهاجرين على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً أو نظيراً، ونحن في أشدّ الحاجة إلى استنباط المفاهيم التعايشية والتكافلية التي تحقق الغاية الأساسية لخلافة الإنسان في الأرض باعتباره بنيان الله كما ذكر الإمام الصادق المهدي في كتابه القيّم «الإنسان بنيان الله»، وقد وجد أعداء الوطن والإنسانية الفرصة سانحة لتفكيك الأمة بتفرُّقنا وسيادة قانون الغاب والاحتكام لشريعة الجاهلية، وقد شهدت دارفور أحداثاً دامية ومؤسفة فقدنا جرّاءها الكثير من البشر والموارد، وقد قال نزار قباني: يا سادتي لم يدخل الأعداء من حدودنا ولكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا ومن خلال تلك المؤاخاة فإننا نتوق وننشد تحقيق جملة من الأهداف، على سبيل المثال لا الحصر التأثير القوي بالتوقيع على وثيقة التعايش بين القبيلتين على العامة، وخلق حالة نفسية تشيع من خلالها روح السلام والتسامح والشعور بالطمأنينة والرضاء، ونفض الغبار عن سالف المواثيق والمعاهدات القبلية القديمة التي يحتكم لها أهل دارفور في التعايش وإصلاح ذات البين، والتركيز على المبادرات المحلية والوطنية باعتبارها الأنجع والأقرب إلى الوجدان الوطني، وتشجيع الحلول الداخلية وتوطين الحوار والتعايش. ولتكن هذه الوثيقة نموذجاً تحتذيه بقية القبائل، بل وتنضم قبائل دارفور الأخرى لمشروع الوثيقة بابتداع رؤية وطنية محلية لمحاصرة المشكلات، والحد من تدويل قضايانا المحلية لصالح أصحاب الأجندات المضرة بالوطن. وحتى يكون هذا العمل مثمراً وفاعلاً يجب ألا يكون حدثاً عابراً ومناسبة سياسية انتهت بالاحتفال الذي تم في حاضرة ولاية جنوب دارفور (نيالا) بحضور القيادات الأهلية، بل يجب أن يستمر العمل وتتواصل الجهود والعمل على تطوير هذه الوثيقة من قِبل مختصين وإرسال الرُّسل إلى (الفرقان) والقرى والبوادي للتبشير بمحتويات المعاهدة وإقامة المؤتمرات وحلقات النقاش والحوار بما يضمن خلو الوثيقة من العيوب، والتوصُّل إلى صيغ تعايشية مقبولة والعمل على تبادل الزيارات والفعل الاجتماعي والاقتصادي المشترك وجمع الوثائق القديمة والمعاهدات المكتوبة والمحفوظة في الصدور لتكون خارطة طريق ومرتكزات يقوم عليها حل المشكلات واستنباط الحلول ما لم تتعارض والشريعة الإسلامية. ومن هنا إننا نتساءل بشدة: أين دور علماء الأمة في إصلاح الوضع المتردي بدارفور وبخاصة علماء السودان؟ أوليس من أوجب واجباتهم تبني مثل هذه الأفكار والاختلاط بالمجتمع وتحمل الأذى والقيام بدورهم وواجبهم الشرعي ومساعدة الحكام بإكمال النقص في الجوانب الأخرى وتوجيه النصح والإرشاد؟، فالأمة ليست بحاجة للبيانات الصحافية لعلماء السودان التي تكرّس للتعصب المذهبي والتشكيلات والأمور الانصرافية. إن وثيقة التعايش التي تمّ التوقيع عليها في الأسابيع الماضية هي بحق تستحق الاحتفاء والإشادة، فهي بمثابة الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وتؤتي أكلها كل حين. ومما يؤسف له أن بعض أفعال الخير لا تجد نصيبها من النشر والترويج والشيوع، وقد أُتيحت لي فرصة سانحة لزيارة معسكر «كلمة» في الأسبوع الماضي وتذكرت الرسالة التي بعث بها إليّ صديقي الناشط في حزب المؤتمر الوطني عمر آدم حسين من منطقة جنوب الحزام، معلقاً على أحد مقالاتي بالغراء «الأهرام اليوم»، بأن «كلمة» بلغة الفور تعني «القلب»، فإن السكان بهذا المعسكر يعيشون أوضاعاً معقدة للغاية، ولكن نائب والي ولاية جنوب دارفور عبد الكريم موسى أخذنا لمعسكر التقوى البديل لكلمة، وهو عبارة عن مخطط يليق بالإنسان، وشرح لنا خطط حكومته لإعادة السكان إلى سيرتهم الأولى منتجين، والسعي لبسط الأمن لعودة الراغبين إلى قراهم وتمليكهم وسائل الانتاج، وتحدث بمرارة أن السنوات السبع التي قضاها الناس بمعسكر كلمة هي سبع عجاف، تشبّع فيها جيل بأكمله بالثقافة الغربية وتحوّل الرجل الدارفوري إلى متلقي للاغاثات الملوثة التي تأتي من وراء البحار، وقد أصيب الشباب في أخلاقهم، فهم بحاجة لنا لإنقاذهم وإعادتهم إلى رشدهم ودينهم، لا أن نُقِم عليهم مأتماً وعويلاً. معسكر كلمة الذي يعني (القلب) سينتقل إلى مخطط التقوى، وما أروع أن ينتقل «القلب» إلى «التقوى» والكل يمسك بكلتا يديه وثيقة التعايش السلمي، وتفتح صفحة جديدة وبيضاء يُسجل فيها تاريخ جديد لدارفور يُلعن فيه الشيطان وتُركل الاغاثات المشبوهة ونزرع أرضنا ونُقيم الجُمع والجماعات.