يتملكنا فرح غامر عند كل مرة نعرف فيها أن أحد أصحاب التجارب الكبيرة في حياتنا قرر أن يضع تجربته في كتاب، وهو بذلك يخدم التاريخ والوطن والأجيال القادمة. ويزداد الفرح عندما نتذكر أن الكتابات السودانية خاصة كتابات أصحاب التجارب الكبيرة قليلة، وقد مضى كثيرون منهم ومعهم أسرارهم ومعهم أيضاً حقيقة ما جرى في زمانهم أيام كانوا يشغلون مواقع مهمة حساسة ومن هنا كانت الذاكرة الوطنية السياسية المعاصرة ضعيفة شحيحة المراجع والوثائق. ولدينا مثلاً الحكم الحالي الذي عمره أكثر من عشرين عاماً أي أكثر من ثلث عمر السودان المستقل وعندما تسأل عن عدد الكتب التي ألفت في هذه الفترة سواء أكان المؤلفون هم أركان العهد أم خصومه ومعارضوه فإننا نجد أنها قليلة لا تلبي احتياجات الباحثين والمؤرخين والشعب القاريء. وكل العهود الوطنية تعاني هذا الفقر المعلوماتي التاريخي المدقع الذي يعانيه البلد في ظل النظام الحالي، ومن الغريب أن عدداً معقولاً من أركان النظام ومن خصومه مثقفون قادرون على الكتابة ولا تقتصر هذه الخاصية على النظام الحالي وأركانه لكنها تشمل كل النظم التي تعاقبت على الحكم منذ الزعيم إسماعيل الأزهري. ثم نرجع للفرح الغامر الذي تملكنا عندما عرفنا أن أحد أصحاب التجارب الكبيرة قرر أن يضع تجربته- وبالطبع أهم ما فيها- في كتاب وصاحب التجربة هو محمد إدريس محمود الذي استهل حياته العملية محاضراً بالمعهد الفني بالخرطوم منتصف خمسينيات القرن العشرين ثم تاجراً في سوق أم درمان ثم رجل أعمال يشار إليه بالبنان ثم وزيراً في حكومة جعفر نميري عام 1971م ثم عاد بعد عشرة شهور إلى أصله وفصله تاجراً ورجل أعمال. ولم يكن محمد إدريس محمود وزيراً عادياً ومن ذلك مثلاً - وهو مدني لا علاقة له بالجيش - أنه هو الذي اقتحم بالدبابة مبنى الإذاعة والتلفزيون عصر يوم 22 يوليو 1971 مبشراً بعودة الرئيس نميري للحكم وهو من الوزراء القلائل الذين عندما طلب منهم الرئيس نميري أن يعملوا معه كانت لهم شروط! وكان من شروط محمد إدريس محمود عندما فاتحه الرئيس نميري بالعمل معه وزيراً إلغاء المصادرات واتخاذ موقف واضح من الشيوعيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية تقريباً داخل مجلس الوزراء، ووافق الرئيس نميري، والاثنان - الرئيس والوزير - زميلان وصديقان منذ الثلاثينيات وقد جمعت بينهما الخلوة ومدرسة الهجرة وكرة القدم وودنوباوي وقد التحق محمد إدريس بالأحفاد الثانوية ونميري بحنتوب الثانوية. وليس من باب الدعاية أبداً أن نقول إن المكتبة السودانية موعودة بكتاب يستحق من «اسم في حياتنا» ولا نعرف لماذا لم يستضفه عمر الجزلي بعد في برنامجه الشهير؟ فالتجربة كبيرة فعلاً وتستحق التوثيق.