{ لقد أحبطني منذ فترة قليلة ماضية أحد الخطوط الصحافية الباهظة لصحيفة اجتماعية مقروءة، فالخط الأول الأحمر الغاني الشاهق لتلك الصحيفة كان يتحدث عن حالة «اغتصاب طفلة دون الخامسة» من قِبل أحد الذئاب الكاسرة. { ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لقلت إن الجريمة التي ارتكبتها تلك الجريدة في حق الأمة السودانية لإفرازها لهذا الخبر وبهذه الجرأة في النشر هو أكبر وأفظع مما ارتكبه ذلك المجرم في حق تلك الطفلة وأسرتها، فلئن كانت تلك الحادثة قد اقتصر ضررها على أسرة، فإنها بعد النشر الجهير قد جرحت كل الأمة السودانية وأحبطت معنوياتها، ولو كنت أنتمي لذلك (المطبخ) التحريري لتلك الصحيفة لمارست عمليات إقصاء كبيرة لذلك الخبر، فبالتأكيد لن أجعله يتربع على عرش الأخبار، وسيكون مصيره بين العزل التام أو الإقصاء والتهميش في ركن قصي فلا يكاد يُبين! وذلك على افتراض أن ضرر نشره أكبر من نفعه. { والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا، ما الجدوى الأخلاقية من وراء نشر مثل هذه الأخبار؟، وذلك على افتراض حُسن النية وأن الصحف أصلاً، كل الصحف، تنهض لمعالجة قضايا الأمة وترفيع شأن أخلاقها، بمعنى إتاحة فرصة أكبر للأخبار والتقارير التي تنزع إلى ترقية الأخلاق، وفي المقابل محاصرة الأفعال التي تحبط وتهدم وتنال من ثقة المجتمع في نفسه، والإجابة ليس هنالك أدنى درجات أخلاقية يمكن تحقيقها من وراء إطلاق عنان ذلك الخبر. { وربما هنالك شعور قد ساور«صُنّاع الأخبار» ورواتها بأن في نشر مثل هذه الأخبار عمليات إصلاح وتنبيه للمجتمع، لكن حتى هذه الفوائد القتيلة إذا ما قورنت مع عمليات «إحباط الأمة» ومُصْلحيها فإنها قد لا تُذكر مطلقاً. { غير أنني هنا لا أستطيع أن أصعد بجريرة نشر مثل هذه الأخبار إلى قمة «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا».. الآية الكريمة، وذلك لعلمي بأن القوم، قوم الصحافة والمطبوعات والمحابر والمنابر، يسعون لترقية أخلاق الأمة وأن خذلتهم في بعض الأحيان تقديرات النشر ومآلاته. { وربما يقول قائل إن هذه الأخبار تُصنّف في قائمة «أخبار الشباك»، بمعنى أنها تزيد من معدلات التوزيع والمبيعات، ولئن كانت هنالك مشروعية لسعي الصحف في تحسين مواقفها داخل مكتبات التوزيع، إذ لا فائدة ولا جدوى فكرية ولا اقتصادية لصحيفة بائرة وكاسدة، غير أنه في المقابل يجب أن تكون هنالك «معادلة موزونة» ومحسوبة بين أدبيات «الإثارة غير الضارة» لتسويق بعض الأفكار المهمة والمفيدة، وبين الإثارة الضارة المجردة التي تنظر في جيوب الناس وتستهدف خزائنهم، فالصحيفة التي تكتب وليس في أجندتها «خزينة حزب» ولا في بالها جيب أحد، فهذه صحيفة تستحق الانتماء لحزب الجماهير، أما مسألة التوزيع والانتشار على حساب أعراض الأمة وعلى حساب بنيتها التحتية الأخلاقية فإنها مرفوضة تماماً، إذ لا معنى لانتشار صحيفة ونهوضها على حساب سقوط أمة بأكملها. إذ أن الصحف تنهض أصلاً لاستنهاض الأمم، وأن الأمم الأخلاق ما بقيت. { ولعلّها فرصة طيبة أن أشد على «تيم الحوادث» بهذه الصحيفة الذي يقوده (الجنرال) طارق عبدالله، الذي يُنْبئك من خلال سرده لحوادث المجتمع بأنه مستوعب جداً بأن «صفحات الجريمة» بمثابة إصلاحية الصحف، وهنالك رسائل قيّمية عديدة تُرسل من خلال نشر تلك الأخبار، أولها فعالية الشرطة السودانية، فما من جريمة مهما بلغت تعقيداتها وتشتت حيثياتها كعقد انفرطت حبيباته في غابة شوك في يوم عاصف، إلا وبحمد الله تتمكن الشرطة من نظم حبيبات ذلك العقد حبة حبة. فهذه ثقافة تجعل أي مجرم يفكِّر ألف مرة قبل أن يرتكب أيّة جريمة أو أن يُقبل على أي عمل إجرمي، كما أن هنالك رسائل تنويرية وارشادية تصحيحية تفيد المجتمع بأسره. { كما أن نشر الأخبار الإجرامية الأُحادية يصيب مصداقية مهنية الصحف في مقتل، بمعنى لو أن شخصاً ارتكب جريمة شاذة، ففي المقابل أن هنالك ملايين السودانيين لم يرتكبوا مثل هذه الجريمة، بمعنى آخر أننا يجب أن نلاحق «الجرائم الظواهر» عندما تُصبح الجريمة ظاهرة عامة في المجتمع. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،،