في الديمقراطية الثالثة كنت أعمل لحساب صحيفة (السوداني).. وفي محيط عملي يممت وجهي شطر جامعة الخرطوم، مهتدياً بضوء منارة العلم، البروفيسور محمد هاشم عوض، تمهيداً لحوار كنت أنتوي إجراءه معه.. وكان محور العمل الصحفي، المفترض، كتاب البروفيسور (الاستغلال وفساد الحُكم في السودان) والذي أصدره في ستينيات القرن الماضي، والكتاب بمثابة (بؤرة ضوء) تكشف عن أزمة الحكم التي كان يعيشها السودان آنذاك، ليست فقط أزمة الديمقراطية الثالثة ولكن أزمة الحكم في السودان منذ الاستقلال إلى مرحلة الإنقاذ.. وفي أثناء الحديث ذكرت للبروفيسور وجه الشبه بين أطروحته وأطروحة تيم نبلوك (صراع السلطة والثروة في السودان).. فقال في زهد المتصوفة وتواضع العلماء، إن كتابه صدر قبل كتاب نبلوك.. إذ صدر كتاب البروفيسور، كما قُلت، في الستينيات.. وصدر كتاب نبلوك في الثمانينيات.. ولكن بالمقارنة الدقيقة بين الأطروحتين، اكتشفت أن نبلوك أفاد من أطروحة البروفيسور عوض في المنهج وبناء الأطروحة وفي المعلومات الأساسية، وزاد البروفيسور عوض فمن بين سطوره تشتم أنفاس ورائحة عرق صغار المزارعين وهم يرزحون تحت نير استغلال التجار، وتسمع أنات الفقراء وهم يرزحون تحت نير الضرائب الباهظة دون الأثرياء.. وفي عهد الإنقاذ صارت الضرائب أشكالاً وألواناً، صارت (أتاوات): ولا عجب فالبروفيسور عوض مفكر سوداني مسؤول وصاحب وجعة بالمعنى الأعمق للوجع، وجع سببه غياب الوعي عن كل أنظمة الحكم في السودان منذ الاستقلال وإلى عامنا هذا، في ظل نظام الإنقاذ. في أطروحته كشف البروفيسور عوض عن أزمة نظام الحكم في السودان في جوهرها.. كأني بأطروحة البروفيسور تقف شاخصة متجددة تسمع أصداءها الآن، ناقدة لما يدور من تركيز الاهتمام على الدستور وشكل نظام الحكم، فيدرالياً أو غيره، تُعقد الندوات وتحاصرك اللافتات تنضح بحبر السؤال الشعار (كيف يُحكم السودان؟)، والأجوبة دائماً هروبية. في تشخيص بروفيسور عوض للأزمة مواجهة للواقع.. مواجهة تدين الحاكمين والفئات المتحالفة معهم على مرِّ الحقب في السودان. ولذلك كان الهروب من الإجابة والهروب من نقد الذات، وتشخيص بروفيسور محمد هاشم عوض، في ثبات شروطه، يضعك في مواجهة الواقع الراهن بكل تضاريسه من الفقر إلى نُذر تفتيت السودان.. ونورد هنا هذا المقطع من الأطروحة بحذافيره بكل نقطة وحرف وكلمة وعبارة فيه.. كيف يصيغ العالم من صخور الواقع قلادة مشعة بوهج العقل والروح.. تنبض بالحياة في بعث متجدد .. يقول (في العشر سنين التي انسلخت منذ أن نلنا استقلالنا، جرَّبنا من أساليب الحكم ضروباً منها الديمقراطي ومنها الدكتاتوري ومنها ما جاء بالتطور الدستوري البطيء ومنها ما جاء بالانقلاب العسكري أو الثورة الشعبية، كما قامت عندنا عُدة حكومات منها الحزبي والائتلافي والقومي، ولكن تحت هذا الخليط العجيب من الأنظمة والأوضاع كانت أحوال القطر الاجتماعية والاقتصادية تسير بانتظام من سيئ إلى أسوأ.. فالفساد الإداري والخلقي تفشى بصورة مخجلة ومخزية في قطر لم يعرف مصلحاً اجتماعياً منذ الثورة المهدية، إلى أن أصبح الفساد أمراً لا يثير الاشمئزاز والتقزز كما كان بل صار يُعد فناً تتطلب ممارسته فطنة وموهبة يُحسد صاحبها عليها، وقد تدهورت اقتصاديات القطر بشكل مخيف ووقع العبء على فئات ومناطق بعينها دون الأخرى من ما جعل بعضنا يقع فريسة لتقلص كبير في دخولهم مع ارتفاع تكاليف المعيشة ارتفاعاً جنونياً، هذا فيما قفز البعض في وقت قصير إلى مصاف المليونيرات وذوي اليسار وقد بدأت الفوارق الضخمة في الدخول والفرص وأسلوب المعيشة تظهر بين الأفراد والأقاليم بصورة هددت تجانس القطر ووحدته).. انتهى. البروفيسور محمد هاشم عوض يرسم هنا، لوحة علمية تضعك في مواجهة الواقع الراهن في ظل الإنقاذ، تسلسلاً، بدءاً بالاستقلال.. تدهور اقتصاديات البلاد، الفقر، التكاليف الباهظة للتدهور الاقتصادية الواقعة على عاتق الفقراء، الفساد الضارب بأطنابه، والتهديد بتفتيت وحدة السودان، بل إن التفتيت وقع بالفعل بانفصال الجنوب والبقية تأتي أو لا تأتي، بحسب التعاطي مع روشتة (البروف).. ومكمن الداء في تشخيصه هو الانشغال بمسألة الدستور، أي تجاهل جوهر الأزمة والانشغال بمظهرها، إذ أن في مواجهة الحاكمين، على مرِّ الحقب في السودان، في مواجهتهم بجوهر الأزمة إدانة لهم والفئات المتحالفة معهم.. كما سبق القول. يقول بروفيسور عوض (ولكن الأمر المزعج حقاً هو أن مفكرينا انصرفوا بكليتهم إلى علاج الأمور بالدعوة إلى مزيد من التجارب الدستورية لتوفير الاستقرار السياسي، فكان أن ظهرت دعوة الحكم الفيدرالي والجمهورية الرئاسية والحزب الواحد.. إلخ، وواضح أن مفكرينا ما يزالون ينظرون لمشكلتنا على أنها مشكلة استقرار نظام الحكم أساساً وأنها يمكن أن تُحل بمجرد إجراء التعديلات الدستورية). النتيجة التي توصل إليها بروفيسور محمد هاشم عوض تنطبق على الواقع الراهن في انشغال أهل الحكومة والمعارضة بشكل الدستور، وشكل الدستور (أي حقيقته كوثيقة حقوقية)، تحدده أوضاع صاحب الحق (الشعب).. أي أن الدستور يجب أن يأتي كانعكاس لمنظومة اقتصادية وسياسية متكاملة، تراعي حقوق المواطن، وبالتالي فإن (الجدل البيزنطي) حول شكل الدستور لا معنى له. يقول بروفيسور عوض مشخصاً السبب الحقيقي لأزمة الحكم في السودان (البلبلة السياسية التي نعايشها اليوم ونكتوي بنارها ليس مصدرها الأنظمة الدستورية في القطر إذ أن هذه الأوضاع ما هي إلا مجرد ظاهرة من ظواهر الأزمة نفسها لا غير، وإنما نردها إلى انفصام القيادات في تلك الأنظمة عن أتباعها ورضوخها لإغراء الامتيازات التي تصحب السلطة والطامعين فيها وعدم تأثرها بوجهة نظر قاعدة أحزابها أو ضغط الهيئات، دينية أم علمية أم مهنية، بقدر تأثرها بتوجه مصالح معينة ومحددة). تشخيص بروفيسور عوض ينطبق على جميع أوضاع الحكم في السودان.. وأيضاً ينطبق على الديمقراطية الثالثة التي أنجبت الإنقاذيين وينطبق على الإنقاذيين أنفسهم.. فالامتيازات والتأثر بمصالح معينة ومحددة كانا سمة الديمقراطية الثالثة.. وفي محيط الديمقراطية (الاسمية) كان يسبح (غول اقتصادي) شره إلى مائدة السياسة، ليلتهم بعدها المائدتين الاقتصادية والسياسية (بقوة عضلات الغول.. الانقلابية)، منفرداً بحكم السودان وبكل ما جاء في تشخيص بروفيسور عوض عن الامتيازات وخدمة المصالح المحددة.. وكانت لافتة الغول (الجبهة الإسلامية القومية). ما قال به بروفيسور محمد هاشم عوض عن أزمة الديمقراطيتين الأولى والثانية والمتمثلة في تحالف رجال الأعمال مع الأحزاب، يفسر الأزمة التي جاءت (بالغول الإنقاذي) في الديمقراطية الثالثة، وكان الغول ذاته من أسباب الأزمة. يقول البروفيسور عوض مشخصاً التحالف (بدخول رجال الأعمال دنيا الأحزاب، انفتح لهم الطريق إلى البرلمان ونتيجة انتخابات البرلمانين السابقين تكشف عن العدد الكبير من رجال الأعمال الذين تسربوا إلى كرسي البرلمان) ويضيف (ولئن ركزنا أنظارنا في تركيبة أجهزة الحكم المركزية بعد الاستقلال والذين يديرونها، فسنجد أن عدداً كبيراً من رجال المال والأعمال يهيمنون عليها تماماً فهم سيطروا على البرلمان الأول نفسه وعلى الأحزاب الكبيرة الممثلة فيه وعلى القيادات في هذه الأحزاب، سواء كانت في الحكومة أو المعارضة) ويضيف (وقد كان أغلب رجالات المقدمة في الأحزاب من رجال الأعمال)، ويضيف (وبهذا التمثيل الضخم المتزايد في البرلمان والحكومة بجانب سيطرة إخوانهم على قيادات الأحزاب الكبيرة، استطاع رجال المال والأعمال إصباغ طابعهم على الجهازين اللذين يخططان السياسة العامة ويضعان التشريعات الخاصة بها). هذه كانت حقيقة الصراع في الديمقراطية الثالثة، التي وصف بها بروفيسور محمد هاشم عوض حال الديمقراطيتين الأولى والثانية.. الصراع حول الامتيازات والمصالح المعينة والمحددة، فكانت الغلبة فيه للجبهة الإسلامية بالانقلاب العسكري.. قد يموِّه الإنسان حقيقة رغباته بذريعة سعيه نحو القيم ولكن تجربة الإنقاذ كشفت حقيقة الجبهة الإسلامية في الغطس حتى (سبيب الرأس) في بحور النعمة والسلطة.. ليأتي دورهم كحلقة في سلسلة أزمة الحكم في السودان. منذ الحقبة المايوية استبدلت الحركة الإسلامية وعود نعيم الآخرة بنعيم الدنيا، فتحولت إلى طبقة برجوازية.. ليست كبرجوازية الغرب (الفاعلة في تطور التاريخ، والمستندة إلى طبقة من رجال السياسة في خدمة مصالحها).. ولكن برجوازية الجبهة الإسلامية (طفيلية) إلى الآن (وهي في الحكم)، برجوازية لا تستند إلى من يديرون مصالحها من رجال سياسة كما هو شأن برجوازية الغرب.. ولكن هي الدولة ذاتها وهي المصالح البرجوازية، هي الاثنان معاً.. (وزير شركة.. شركة وزير). يقول الدكتور حسن الترابي في كتابه: الحركة الإسلامية في السودان التطور والمنهج والكسب، عن التوجه الاقتصادي للحركة الإسلامية في مايو (طرأت ظروف على الحركة طورت صلتها بالاقتصاد ذلك أن الجماعة تعرضت للاضطهاد السياسي في السبعينيات فطُرد بعض عناصرها من الخدمة العامة في إدارة الدولة فاضطروا لأن يعملوا عملاً تجارياً حُراً ليلتمسوا الرزق). طَرد الإسلاميين من الخدمة العامة عند الترابي هو مظهر للكبت السياسي الذي عانت منه الحركة الإسلامية قبل المصالحة في مايو.. أي قمعها.. وتوجهها للاقتصاد عند الترابي هو نوع من التعويض ولكن بعكس ما يقول الترابي، فتوجهها للاقتصاد لم يكن من أجل القيم السامية ولكن من أجل ذاتهم وهي الحقيقة الشاخصة الآن والتي قذفت بالترابي ذاته، خارج الملعب.. يقول الترابي عن الكبت السياسي للحركة في مايو والمعوَّض بالاقتصاد (هكذا أدى الكبت السياسي إلى أن تنصرف الحركة ببعض طاقاتها إلى المقاصد الاقتصادية الإسلامية حيث الحركة متاحة بغير حرج أو خوف بمجالات آمنة لأفرادها العاملين، ولإطلاق قواها المكبوتة). وفق أقوال الترابي فقد كانت القوة الاقتصادية هي وسيلة الحركة الإسلامية إلى القوة السياسية، لينتهي أهلها إلى قوة السلاح وإلى الانقلاب وليسلكوا بطبع البشر فيهم، فالكبت عندهم الذي قال به الترابي عقدته هي شهوة السلطة والمال، لذلك لا معنى لحوارهم مع القوى السياسية الأخرى ولا غاية منه إلا المناورة.. وحتى لو افترضنا أنهم قبلوا بتفكيك سلطتهم ليصبحوا لاعباً ضمن الآخرين، فهم سيطروا على مفاصل الاقتصاد وهذه ستكون معركتهم مع الحزبين الكبيرين، الأمة والاتحادي، أن يستعيد قادة الحزبين ورجال المال والأعمال المتحالفون معهم ما كان لهم من نفوذ في الديمقراطية، وستعود الديمقراطية، لو جاءت، إلى سابق عهدها.. ولكن الوضع في هذه المرة مختلف في وجود حركات الهامش المدججة بالسلاح.. والسؤال ليس هو كيف يُحكم السودان.. ولكن ما هو مصير السودان في وجود القوى السياسية وجماعات المصالح العمياء في الحكومة والمعارضة.. فهل يزيلون الغشاوة عن أبصارهم ويَكُفون عن التمركز في الذات والنظر في تغليب كفة سؤال البحث عن وسيلة ناجعة لحكم السودان.. أن ينظروا في كتاب بروفيسور محمد هاشم عوض.. فقد حذرهم منذ الستينيات، لعلهم يهتدون!