تعرف علينا أحد القراء الكرام ذات مناسبة عامة فباغتنا بقول، أنا أقرأ لكم منذ فترة طويلة لكن هنالك مقال لا يزال عالقاً بذهني ولم أهضمه بعد، يقول الرجل، أنت ذات مرة وجهت مقالك للوزير سبدرات ثم تركت له رقم هاتفك في نهاية المقال، فماذا كنت تنتظر من السيد الوزير؟ قلت له (الحمد لله أن الرجل يومها لم يكن على خزائن مصر، بل كان وزيراً للحكم الاتحادي، وكنت قد احتجت لنصه الشعري (في حضرة طه أعترف)، وبالفعل وعبر ذلك الهاتف قد وصلني النص، فلم يملك الرجل إلا أن يهز رأسه كما لو أنه يقول لنا (سمعاً وطاعة الآن يا مولاي). ومنذ أسابيع كنت بذات الوزارة، الحكم الاتحادي، في نسختها الأخيرة التي يديرها البروفسيور الأمين دفع الله، وكنا يومها نشهد (تقرير ولاية كسلا) الذي قدمه واليها الأستاذ محمد يوسف آدم، لماّ باغتنا رجل الإدارة والقانون محمد أحمد سالم، وتواضع الرجل الكبير على أنه يتابع ما يكتب في هذا العمود، لكنه أشار إلى مقال بعينه لا يزال عالقاً بذهنه، وقال إنه لا يشبه الملاذات، والمقال يتحدث عن حاجة قضاها أحد الوزراء، لم يستنكف هذا الرجل الشكري أن يقول لي، أولاً هذا الوزير الذي ذكرته لا يعرف عنه قضاء الحاجات، فضلاً عن أن المقال ينطوي على كثير من حالات (شخصنة القضايا)، تذكرت لحظتها قول شيخ العرب (الشكرية كتره ونحنا ما بنفداها.. أنا عندي العرب بريا أخير نفداها)، لو أنها (رقبة طه البطحاني) في مسرحية ودكين، لما احتشد وفد الشكرية أمام جدنا المك نمر بشندي وهتف قائلهم: يا مك دار جعل نحنا رزينا وبموت ود دكين كل القبيلة حزينة أم حمد بقول بنسبك اتعزينا سل لينا طه قبال ما تجي تعزينا لم أقل للرجل سالم كما قال المك نمر (حمد طه يوم داره جاه براه.. مادق الطبول وقبيلته جات بارياه)، فقلت للرجل بأدب إن تلك الحالة كانت تخص طالبة يتيمة، وذكرها في العامود كان بمثابة (إيصال استلام) للسيد الوزير بأن الأمر قد سوى واتبعتها بسطرين حلوين لأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله كما يقال، فخضع الرجل الكبير، رجل قبيلة الشكرية ورجل قبيلة القانون، لذات المقولة الاعتراضية (الآن سمعاً وطاعة يا مولاي)، ولما رجعت إلى نفسي وملاذاتي وجدت هذا المقال قد نشر قبل أكثر من عام، فاستدركت خطورة أن تكون كاتباً في أمة هذه ذاكراتها وتلك تساؤلاتها، فالكاتب متهم حتى تثبت مقاصد كتابته ووجهتها! ومذ يومها أصبحت أتمتع بحساسية عالية تجاه إسناد بطولة ملاذاتي إلى نفسي، وأصلاً كنت أكره هذا الفعل عند الآخرين، أن تدور حول نفسك، أن تجعل من نفسك دائماً بطلاً والآخرين مجرد كومبارس وجمهور، لكن ما لا يدركه الكثيرون، أن هذه اليوميات هي عبارة عن مشاهدات ورؤى وابتكارات صاحبها، كما أنه في معظم الأحيان يصبح الكاتب بمثابة (الشاهد الوحيد)، ولحظتها لا مناص من أن تتوسد بطولة مقالاتك وتتوكل على الله وفي ذهنك قولهم (اتوسد تقيلته عمودنا.. إن شاء الله ثابت أجره). وحكاية أخرى لعلها ترفد فكرتنا، كان خالنا سيد أحمد ينوي زيارة المدينة، ولم يجد وسيلة مواصلات في القرية إلا عربة (خواجات سواح)، (جواسيس)، كانوا يمرون بالقرية، فأتى بالأستاذ العجب من المدرسة ليتفاهم مع الخواجات، فصرفوا كثيراً من الإنجليزي، وسيد أحمد الذي لا يفهم هذه اللغة صاح في وجوههم بقوله:(يا العجب.. الإنجليزي دا كله عشان سفري لعطبرة .. ياخي قولهم خليتها تب)!! فكانت كل هذه الاستطرادات هي بمثابة اعتذار مشفوع ببعض الحكايات.. وفي يوم سبت من أجمل العطلات، على أن البطل هو القارئ الذي يدفع الثمن مرتين، مرة ثمن الصحيفة.. ومرة الاصطبار على مشقة القراءة. والله أعلم