فريق أول ركن/حسن يحى محمد أحمد لقد عبّر عن هذه العلاقة الوطيدة بوضوح تام المفكر الاستراتيجي (كلاوفتز) الذي قال في هذا المجال (إن السياسة الخارجية والسياسة العسكرية للدولة عبارة عن وجهان لعملة واحدة حيث أن كلاهما يتطلع إلى ما وراء الحدود وكلاهما يبحث ويهتم بقدرات الآخرين وكلاهما يدعم ويساند الآخر من أجل تحقيق الهدف السياسي العسكري للدولة). هكذا رسم (كلاوفتز) هذه العلاقة التكاملية المبنية على روح التعاون والتجانس والانسجام والثقة المتبادلة والتنسيق التام والعمل بروح الفريق الواحد من أجل تحقيق الهدف المنشود. والهدف السياسي العسكري لجمهورية السودان باختصار شديد هو (تأمين جمهورية السودان وحماية حدودها...الخ)، ولقد أخذت كل الدول المتقدمة بهذه العلاقة الاستراتيجية وطوّرتها حيث أنشأت بعض الدول إدارة خاصة في وزارة الخارجية تهتم ببناء وتطوير قُدرات الدولة الدفاعية التي اعتبرتها يدها الطوْلى في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. العالم اليوم لا مكان فيه إلا للأقوياء، حيث أن القدرة العسكرية أصبحت اليوم عاملاً رئيساً في التأثير الدولي وأداة فعّالة في السياسة الخارجية لأي دولة في العالم، بل أصبحت من أهم آليات تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. تُقاس فائدة القدرة العسكرية وكفاءتها بالمدى الذي يمكن أن تساند وتدعم به السياسة الخارجية مما يجعل قرارها السياسي قراراً نافذاً. تتوقف مكانة الدولة في الأسرة الدولية إلى حدٍ كبيرٍ على مدى ما تتمتع به من أمن واستقرار وتنمية وتقدم في مختلف المجالات وبما تحققه لشعبها من رفاهية ورُقي وحضارة. لقد أجمع معظم المفكرين والخبراء في العالم على أن مكانة الدولة بين الدول تُقاس بعاملين أساسيين أولهما إقتصاد قوى وثانيهما قوة عسكرية ضاربة. ولهذا نجد أن معظم الدول في العالم تسعى بكل السبل والوسائل إلى تنمية قدراتها الإقتصادية والعسكرية وهنا يأتي دور السياسة الخارجية للدولة لينعكس على سياستها الداخلية الإقتصادية والعسكرية. تُقاس كفاءة السياسة الخارجية للدولة بما تحققه من نجاحات في مجال تطوير الإقتصاد القومي وبما تحققه من نجاحات في مجال بناء القدرات الدفاعية للدولة، ومن هنا جاءت فكرة أن الجيوش تُبنى بالسياسة. كل الدول التي اهتمت بهذه العلاقة حافظت على سيادتها الوطنية. أما الدول التي لم تهتم بهذه العلاقة جهلاً بها أو لأنها لا تملك الإرادة السياسية لاستغلال قواها الاستراتيجية وموقعها الجغرافي، فإن هذه الدول أصبحت تعيش على الهامش وأصبحت عُرضة للتدخُّل الخارجي والضغوط الدولية مما أفقدها السيادة الوطنية ورهن قرارها لإرادة الآخرين. أصل الصراعات في العلاقات الدولية صراعات سياسية. وإذا ما فشلت الحلول السياسية والدبلوماسية لمعالجة تلك الصراعات السياسية فإنها ستتحول إلى صراعات مسلحة حيث تلجأ كل دولة من الدول المتصارعة إلى قوتها العسكرية لفرض إرادتها على الدولة المعادية لها، ومن هنا نجد أن معظم الدول في العالم تبذل قصارى جهدها لبناء قدراتها العسكرية تحسُّباً للمواقف التي تتحول فيها الصراعات السياسية بين الدول إلى صراعات مُسلّحة. بناء القدرات الدفاعية لأية دولة في العالم يحتاج إلى امكانيات ضخمة وموارد كبيرة قد لا تتوفر لدى معظم الدول إلا الدول المُصنِّعة للسلاح ومن هنا نجد أن معظم الدول في العالم لجأت إلى الدخول في أحلاف عسكرية بما في ذلك الدول المتقدمة من أجل تقليل حجم الانفاق العسكري كما لجأت بعض الدول إلى إقامة قواعد عسكرية على أراضيها أو عقد اتفاقيات صداقة وتعاون طويلة المدى مع حليف استراتيجي أو تقديم تسهيلات لهذا الحليف الاستراتيجي حتى تضمن تدفق السلاح لها. وكثير من هذه الدول تستغل موقعها الاستراتيجي وامكانياتها ومواردها غير المُستغلة في سبيل الحصول على المساعدات الإقتصادية عن طريق الشراكة الذكية. وفي سبيل الحصول على السلاح الذي تحتاجه والأمثلة هنا كثيرة سواءً في دول الجوار أو في العالم، وقد يستغرب البعض كثيراً في الكيفية التي تستطيع بها دولة فقيرة من دول العالم الثالث أن تبني جيشاً قوياً يهابه الأعداء. ويكفي في هذا المجال الإشارة هنا إلى المساعدات الكبيرة التي تتلقاها دولة مجاورة حيث بلغت تلك المساعدات ما يقارب إثنين ونصف المليار دولار سنوياً كمساعدات إقتصادية وفنية وعسكرية تتلقاها هذه الدولة من دولة عظمى فأصبح جيشها من أقوى جيوش المنطقة مما أهّلها لتكون دولة محورية. لقد وظّفت هذه الدولة المجاورة موقعها الاستراتيجي وعلاقاتها الدبلوماسية وثقلها السياسي بذكاء فاستطاعت أن تبني وتطوِّر قدراتها الدفاعية عن طريق السياسة. الامكانيات والموارد الذاتية الضخمة والموقع الجيوبولتيكي المتميز للسودان يفوق امكانيات هذه الدولة المجاورة ويفوق موقعها الجغرافي. ويكفي هنا الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد وصفت السودان بأنه (America No Two) من حيث الموارد والامكانيات والموقع الاستراتيجي المتميز، ولقد استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية استغلال ثرواتها ومواردها فحكمت العالم. وإذا ما تمكّن السودان من استغلال ثرواته وموارده وموقعه الجغرافي، فإنه سوف يحكم العالم كذلك. ومن هنا جاء العداء الأمريكي للسودان ومن هنا كان القرار الأمريكي بعدم السماح للسودان باستغلال ثرواته إلا عن طريق الولاياتالمتحدةالأمريكية. الخصائص الجغرافية والموارد الطبيعية وموقع السودان في قلب القارة الإفريقية وتكويناته الإجتماعية وتعدُّد ثقافاته وأعراقه ودياناته، جعل منه صورة مصغّرة للقارة الإفريقية ودولة مِفتاحية للدخول للدول الإفريقية والدول العربية، هذا بالإضافة لقربه من منطقة البحيرات العظمى الغنية بمواردها النفيسة ومنطقة القرن الإفريقي ذات الموقع الاستراتيجي، هذا بالإضافة لاطلالته على التجارة الدولية بساحل بحري عريض يبلغ طوله أكثر من 800 كلم، كل هذه المميزات تجعل من السودان قبلة للدول العظمى إذا ما تم استغلالها بذكاء عن طريق الدبلوماسية الذكية والشراكة الذكية. وحينها ستتدفق على السودان المساعدات الإقتصادية والفنية والسلاح الذي يحتاجه من كل صوب، وسوف يصبح السودان الدولة المحورية الأولى بالمنطقة العربية والإفريقية. لقد آن الأوان لوزارة الخارجية أن تتحرك في هذا الإطار حتى يصبح السودان رقماً صعباً لا تتخطاه السياسة الدولية. كل الصراعات المُسلحة الداخلية والتحرُّشات العسكرية الخارجية التي شهدتها البلاد حتى أصبحت تعيش في حرب استنزاف دائمة كان من أهم أسباب إطالة فترة حرب الاستنزاف هذه عدم تمكين الجيش من عناصر القوة الكافية التي تمكنه من تحقيق الحسم السريع والردع القوي وتجعله يتحول من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم وامتلاك عامل المبادأة، وحينها سوف لن يتجرّأ أي عميل أو مغامر من تهديد الأمن القومي السوداني. الجدير بالذكر أن كل الحكومات الوطنية قد دعمت الجيش من خلال ميزانياتها السنوية المحدودة التي لا تكفي لاحتياجات المواطنين الضرورية والأساسية، وقد كان هذا الدعم دعماً محدوداً لا يتناسب مع حجم المهددات الداخلية والخارجية التي تتعرّض لها البلاد. التجارب المريرة التي عايشناها جميعاً لابد من الخروج منها بدروس مستفادة، وأهم هذه الدروس هو بناء جيش قوي يملك قوة الردع عن طريق الدبلوماسية الذكية وعن طريق الشراكة الذكية كما تفعل معظم الدول في العالم حتى نستطيع العيش في أمن وسلام داخل محيطنا الإقليمي الذي يتكوّن من تسع دول مجاورة لكل دولة منها أجندتها الخاصة. وختاماً أسأل الله أن يوفقنا ويهدينا لاستغلال قوانا الاستراتيجية وموقعنا الجغرافي المتميز عن طريق الدبلوماسية الذكية والشراكة الذكية بإرادة سياسية قوية من أجل بناء الدولة العصرية الآمنة والمستقرة وبالله التوفيق. زمالة أكاديمية نميري العسكرية كلية الدفاع الوطني