يستهويني التفرس في وجوه الناس أينما حللت..، وبذات المتعة التي استشعرها وأنا أحاول أن استعرض أكبر عدد من اللافتات على المحلات والطرقات عبر نوافذ المركبات العامة والخاصة تجدني أمعن في قراءة الوجوه والملامح حيثما كان هناك إزدحام..، في بيوت الأعراس والمآتم والمستشفيات ومواقف المواصلات العامة وغيرها.. بدأت مؤخراً ألحظ أن جميع الوجوه متشابهة، عليها سيماء الهم والحزن والاذعان..، الكل صامت ومتأمل وذاهب في تفكير عميق، لم تعد لدينا الرغبة في التعارف أو تجاذب أطراف الحديث لأننا أصبحنا نهرب من كل ما حولنا الى هذا الذهول والحيرة والقلق، وكأننا نغتنم الفرص لنبحث لمشاكلنا الشخصية عن حلول أو نسترجع أزماتنا ونجتر معاناتنا في هدوء وانطواء. معظم ملامح السودانيين بسيطة ومنكسرة ومريحة هذا في النطاق الذي يحيطني على الأقل حيث الطبقات الفقيرة والمنهكة التي تلهث وراء لقمة العيش وتخشى بزوغ شمس الصباحات الجديدة..، حتى الأثرياء المترفين عليهم بعض سمات الخوف ولكنه خوف منزعج يظهر على شكل تكشيرة وحدة واضحة ربما لأنهم يحاولون أن يلقوا بهيبتهم على الجميع حتى لا يبادر أي إنسان لاختراق حواجزهم السميكة على أساس قناعتهم الراسخة بأن الجميع طامع فيهم ويهدف لاستغلالهم لا محالة. كل الأطفال متشابهون.. بمختلف سحناتهم وأجناسهم وألوانهم وأنواعهم..، كلهم عليهم ذات البراءة والوداعة يدخلون القلب بلا استئذان ويؤدون ذات الحركات والايماءات ويصدرون أصواتاً متشابهة..، يبادلونك الابتسامات الحلوة ويتجاوبون مع مداعبتكم لهم، غير أن بعضهم سريع الإلفة والاستجابة لندائك وعلى استعداد لأن تحمله من بين ذراعي والديه قليلاً وتنأى به بعض الشيء بينما بعضهم يفضل أن يلهو معك من بعيد حيث تتوفر مقدرة من الأمان. ولا أعرف من أين أتت للنوع الأول هذه الحميمية والطيبة والسذاجة ومن أين اكتسب النوع الثاني هذا الحرص والتحفظ؟ وهل للأمر علاقة بالجينات الوراثية؟ ربما.. ولكنهم جميعاً يجيدون التلويح عند الوداع بمجرد أن يكملوا عامهم الأول ويتقنون لعبة الاختفاء وراء الظهور المعروفة بالكلمة المبهمة الهلامية (يااااااك) وما يصاحبها من حركات بالرأس. على امتداد الخط السكاني الذي أنتمي اليه يتمتع الغالبية بالهدوء والاحترام ولا يحبون المشاكل (يعني في حالهم) عدا فئة قليلة من الشباب الثائر، وكلما توغلت جنوباً باتجاه القرى الواقعة جنوبالخرطوم بادرك الناس بالطيبة والوداعة والوضوح والتلقائية لأنهم لا زالوا على سريرتهم الأولى.. لم تشوههم المدينة ولا تغيرت أحلامهم البسيطة والتي على رأسها الستر والصحة..، لذلك كلما اتجهت نحو المركز أصبحت الأصوات أعلى والوجوه أكثر اكفهراراً والعيون أشد بريقاً يلمح بها بعض الخبث والدهاء الذي أحسب الناس قد اكتسبوه بفعل الحاجة وضرورة تأمين سبل العيش بأي وسيلة حتى وإن كانت ممارسة التسول الملحاح من قبل أصحاب الوجوه الجامدة التي حفظناها عن ظهر قلب حتى لم تعد تستدر عطفنا وأصبحت أيادينا غالباً لا تتجه نحو حقائبنا لإخراج (الفيها النصيب) لأننا أصبحنا أحوج في كثير من الأحيان غير ان معظمنا يجملها بالستر ويفضلون أن نحسبهم أغنياء من التعفف. وعلى طول الطريق.. تلاحقك الوجوه.. بعضها يدفعك للتفاؤل من فرط بشاشته وملامحه المريحة..، بعضها مريب ومخيف تعرض عنه فوراً..، بعضها جميل يثير الإعجاب..، وبعضها قبيح ومنفر..، بعضها ملطخ بالأصباغ والألوان يدعو للاستنكار والامتعاض..، بعضها يسرق النظرات من خلف عدسات نظارته الشمسية، وبعضها يحاصرك بنظرات وقحة.. جريئة ومزعجة..، وبعضها لا يرفع عينيه من على الأرض مطلقاً..، وجوه.. ووجوه.. ووجوه..، وليس هناك وجه واحد للبطل المنتظر بملامحه الصادقة والمتجردة. { تلويح: أفتش في وجوه الناس،.. أبحث عن «صلاح الدين».