أتمنى أن يتضمن برنامج الحكومة الانتقالية، الأهداف التالية: أولا: التعجيل بانطلاق مفاوضات السلام لوقف الحرب الأهلية والتوافق على مشروع سياسي اجتماعي تنموي قومي يحقق السلام ويوطده عبر تحقيق المشاركة العادلة في السلطة، وإعادة النظر في توزيع الثروة وخطط التنمية بما يرفع الإجحاف والتهميش عن المناطق المتخلفة والأقل نموا في الأطراف، مع إعطاء أسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، وذلك في إطار مشروع اقتصادي تنموي، يسترشد بالخبرة العلمية ومنجزات التجربة الإنسانية والمبادئ العامة للعدالة الاجتماعية. هناك من يطرح اقتصاد السوق الحر كحل سحري لإخراج شعوبنا من وهدة الفقر والمعاناة. ولكن تجربة أغلبية البلدان التي سارت في هذا الطريق، ومن بينها تجربة الإنقاذ في السودان، أثبتت خطل هذا الطرح. والمشروع التنموي القومي ينطلق من عدة مرتكزات، أهمها: 1- مراعاة التوازن الجهوي وحماية الشرائح الاجتماعية الضعيفة، لأن ما تعانيه بلادنا من تشويهات هيكلية كرست امتياز فئات معينة، ومفارقات تنموية بين الأقاليم، واتساع دائرة الفقر…الخ. 2- قومية كل الثروات الطبيعية في السودان وتوظيفها، أولا في تصفية آثار الحرب الاهلية وعلاج مأساة النزوح واللجوء، وإزالة جذور قضايا التهميش، وثانيا لإعادة تعمير وتأهيل الانتاج الزراعي والحيواني والبنية التحتية والتعليم والصحة واقتناء التقنية الحديثة لترقية الصناعة، ولمحاربة الأوبئة والزحف الصحراوي وحماية البيئة…الخ. 3- توزع عائدات الثروات الطبيعية وفق نسب يتفق عليها، مثلا: أ- نسبة تخصص للميزانية العامة ولخزينة الدولة، مع التأكيد على المعاملة التفضيلية للمناطق المتأثرة بالحرب والمناطق الأقل نموا. ب- نسبة تخصص لميزانية التنمية، مع إعطاء أولوية لمشاريع التنمية في مناطق المعاملة التفضيلية. ج- نسبة تخصص لمناطق التنقيب والاستخراج تستثمر في إصلاح البنية التحتية وخلق فرص عمل وتوفير الخدمات مثل مياه الشرب النقية والعلاج والتعليم..الخ. ثانيا: تحقيق التحول الديمقراطي بكل تفاصيله، ويشمل ذلك احترام التعددية والتنوع، الاعتراف بالآخر، كفالة الحقوق والحريات، سيادة حكم القانون واستقلال القضاء، الفصل بين السلطات، الاستعداد للتداول السلمي الدستوري للسلطة…الخ، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أننا في التجارب الديمقراطية الثلاث، بعد الاستقلال (1956) وبعد ثورة تشرين الأول/ أكتوبر (1964) ضد الحكم العسكري الأول وبعد انتفاضة نيسان/أبريل (1985) ضد النميري، كنا نطبق نظام «وستمينستر» المعروف، والذي فشل تماما على الرغم من أن بدائله كانت أسوا منه بما لا يقارن (الحكم العسكري الأول 1958، انقلاب النميري 1969، وانقلاب البشير 1989). لكن فشل الممارسة الديمقراطية المعينة لا يعني فشل مبدأ الديمقراطية. بمعنى آخر، نحن نحتاج إلى وضع صيغة للممارسة الديمقراطية التعددية في بلادنا تراعي بشكل دقيق الخصائص المميزة للواقع السوداني بتعرجاته الإثنية والطائفية والعقائدية. ومثل هذه الصيغة من السهل جدا التوصل لها إذا ما اجتهدت كل الأطراف المؤمنة بالتعددية ودشنت، خلال الفترة الانتقالية الراهنة، حوارا جادا حولها. ثالثا: انتزاع مؤسسات الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية من براثن الدولة العميقة، وإعادة بنائها وهيكلتها على أساس قومي بعيدا عن الحزبية والانتماء السياسي، وإرساء دعائم الحكم الرشيد. رابعا: وقف الانهيار الاقتصادي ووضع برنامج إسعافي وتنموي هدفه وغايته المواطن وجماهير الغلابة في الريف والحضر. وفي هذا الصدد هناك مجموعة من التدابير، منها: ترشيد الإنفاق وتقليص على المؤسسات السيادية، ووقف الصرف المبالغ فيه على القطاع العسكري/الأمني على حساب المشاريع المتعلقة بتخفيف أعباء المعيشة على المواطن، وتحويل الناتج لزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم وتوفير مياه الشرب النظيفة والإسكان الشعبي. إصلاح النظام المصرفي وإعادة الدور القيادي والرقابي للبنك المركزي، ووضع الائتمان تحت رقابته، وإعادة توجيه القروض المصرفية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة القطاعات الحرفية والصناعية والنقل والخدمات. وضع برنامج إسعافي، بمشاركة العاملين، لإعادة الحياة في المشاريع القومية، كمشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل البحري والجوي، ووضع خطط إستراتيجية للتعامل مع القطاع الزراعي والحيواني كأولوية قصوى، يشارك في رسمها كل أصحاب المصلحة في القطاعين. إعادة الأراضي الزراعية المنزوعة لأصحابها، ومنع نزع ملكية أراضي المتعسرين. إعادة الحياة للحركة التعاونية، وتقديم الدعم الخاص لتعاونيات المزارعين. إصدار قانون تحديد الإيجارات للمنازل والأراضي. إصلاح النظام الضريبي على أساس مبدأ التصاعدية. وضع خطة لجذب الاستثمار الأجنبي في إطار خطط التنمية الوطنية، وعلى أساس اكتفاء رأس المال الأجنبي بمعدل ربح طبيعي ومعقول. صياغة قانون جديد للعمل، بمشاركة العاملين والدولة وأصحاب العمل، للاتفاق حول شروط خدمة العاملين، المعاشات، التأمينات الاجتماعية، الرعاية الصحية، حق تكوين النقابات المستقلة، حق الإضراب…الخ. تحديد الحد الأدنى، وأيضا الأعلى، للأجور وتعديله بالتوازي مع تطور الأسعار، عبر آلية تضم الدولة والقطاع الخاص ونقابات العاملين. منح معونة الفقر المدقع (معونة البقاء على قيد الحياة)، وتحدد الدولة والنقابات معا، شروطها وقيمتها ووسائل تمويلها. مراجعة الأداء المالي لكل مؤسسات الدولة، ووضع آلية فعالة لاسترداد المال العام المنهوب، بما في ذلك الامتيازات والإعفاءات والدعم الممنوح للاستثمارات الخاصة، وشن هجوم على كل بؤر وممارسات الفساد، وتقديم المسؤولين للعدالة. مراجعة صفقات بيع أراضي الدولة ومؤسسات القطاع العام، مع تحديد القيمة الحقيقية لهذه المؤسسات. مراجعة العقود الممنوحة لشركات استخراج وتسويق البترول والذهب والمعادن الأخرى، وكذلك شركات تسويق الكهرباء والماء، وإدخال كل الحسابات في ميزانية الدولة. إحداث ثورة حقيقية في التعليم تشمل مراجعة المناهج، أوضاع المعلم، تنوع أشكال التعليم من تقني وأكاديمي وتجاري، إدخال النظريات التربوية الحديثة، وربط التعليم بثورة التكنولوجيا. خامسا: إصلاح السياسة الخارجية بعيدا عن المحاور والارتهان للأجنبي. سادسا: بناء علاقة إستراتيجية مع دولة جنوب السودان، تبدأ بفتح المعابر وحرية التجارة الحدودية ومراجعة اتفاقيات مرور النفط…الخ، ومرورا باتفاق الحريات الأربعة فالتكامل الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين، وصولا إلى الصعود بالعلاقات إلى مستويات إستراتيجية عليا.