الغرب والإنسانية المتوحشة    يستأهلون العقوبة المغلظة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    الموافقة للقمة السودانية المشاركة ف الدوري الموريتاني    الجزيرة تستغيث…(1)…الآلاف من نزلاء السجون ومعتادي الإجرام ينتهكون القرى واحدة تلو الأخرى.!    (برقو وغضبة الحليم)    ولاية الخرطوم: ويسترن يونيون تفتح فرع لصرافة ميج بأمدرمان    شهادات مزورة.. الداخلية تداهم أكاديمية تعليمية بالإسكندرية    بوتين يصدر مرسوما يتيح التصرف بالممتلكات الأمريكية في روسيا    الإمارات تتحفّظ على قرار الجامعة العربية بدعم السلام والتنمية في السودان لأنّه يتطلب الدراسة والتدقيق    الإعلان عن تطورات مهمة بين السودان وإريتريا    شاهد بالفيديو.. طفل سوداني يقف أمام سيارة للجيش ويحمس الجنود بأبيات شعرية قوية وأحدهم يقبل رأسه إعجاباً بقصيدته    مصر: إسرائيل دأبت على استفزازنا.. ونرفض سيطرتها على معبر رفح    شاهد.. الفنانة الأبنوسية فدوى فريد تغني مرثية للشهيد محمد صديق    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    خبيرة ترسيم حدود تكشف مواقع أنهار مصر الحية والمدفونة في الصحراء    من هو الأعمى؟!    السعودية: دخول مكة المكرمة يقتصر على حاملي تأشيرات الحج    أعطني مسرحاً أعطك حضارة    ما هو التالي لروسيا في أفريقيا بعد فاغنر؟    بلقيس لجمهورها: «يا ويل حالي»    كيف تكتشف الكاميرات الخفية في المنازل المستأجرة؟    الخارجية: على المجتمع الدولي الإقرار بدورنا في حماية الأمن الإقليمي والدولي والتوقف عن الاتهامات غير المؤسسة    بعد "تشكيك" في دورها.. مصر تهدد بالانسحاب من جهود الوساطة بين إسرائيل وحماس    آل إيه.. آل هزمنا الأهلى والترجي!!؟؟    أتالانتا ينهي سلسلة ليفركوزن التاريخية    زيادة سقف بنكك والتطبيقات لمبلغ 15 مليون جنيه في اليوم و3 مليون للمعاملة الواحدة    هل دفع ميسي ثمن رعونة البدايات؟    كيف ولماذا عاد الكيزان الي المشهد ..    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حسين خوجلي: وما زالت الجزيرة في محطة الانتظار المفضوح    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني في السوق الموازي ليوم الثلاثاء    صلاح ينهي الجدل حول مستقبله.. هل قرر البقاء مع ليفربول أم اختار الدوري السعودي؟    عائشة الماجدي: (أغضب يالفريق البرهان)    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    الحقيقة تُحزن    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة حوار حول العلمانية مع الدكتور صادق جلال العظم: خالد موسي دفع الله
نشر في الانتباهة يوم 15 - 03 - 2012

استضافت مؤسسة بن رشد للفكر الحر ببرلين الأسبوع الماضي الدكتور صادق جلال العظم في محاضرة عن «العلمانية والمسألة الدينية تركيا نموذجًا»، وتداعت طوائف اليسار العربي لسماع ما يشفي غليلها بشأن التحولات والمخاضات الكبرى التي تمر بها المنطقة العربية جراء صعود الإسلاميين والتحديات التي يواجهها المشروع العلماني، ومدى مقاربة النموذج التركي لما يسميه أنماط الإسلام الراديكالي في المنطقة. يعد الدكتور صادق العظم من أبرز رموز الفكر العلماني المعاصر في العالم العربي، وله إسهامات معرفية عميقة التأثير أحدثت جدلاً واسعًا خاصة كتبه «نقد الفكر الديني، وما بعد ذهنية التحريم». استقى الدكتور جلال العظم جدليات منهجه النقدي تجاه الفكر الديني، ودفاعه عن المادية من فلسفة كانط ونظريته في المعرفة التي كانت مبحثه الأساس في أطروحته الأكاديمية.
بدأ د. العظم محاضرته بحكاية رمزية، حيث قال: دخلت إلى مكتب عميد كلية الآداب بجامعة دمشق عندما كنت رئيسًا لقسم الفلسفة، ولمحت في زاوية الساحة المجاورة زميلين يتجادلان بجدية وصوت مرتفع وحماسة زائدة، تكاد ترى فوران الدم في عروقهما. وقال: عندما اقتربت وجدتهما يتناقشان عن علي ومعاوية. فدهشت وقلت لهما أتتناقشان بهذه الحدة على حدث مضى عليه أربعة عشر قرنًا، كأنه حدث بالأمس؟ هذا النمط من التفكير الذي يرهن المستقبل لكل الأحداث الماضية فيه خطورة على التقدم والتطور في البلاد العربية، ويعمق من نزعات التخلف والانحطاط التي نعاني منها.
انطلق د. العظم في محاضرته من ميسم أفكاره التأسيسية حول الصدام الحتمي بين الفكر الديني ومشروع الاستنارة العلماني. معيدًا إنتاج مبحثه التاريخي حول النقد الذاتي بعد الهزيمة عام 1968، والذي أعقبه بأطروحة نقد العقل الديني عام 1969.. واحتفى د. العظم بما سمّاه نزع القداسة عن نقد الدين، مشيرًا إلى أن المجتمعات الإسلامية أصبحت أقل شراسة تجاه الأفلام المسيئة مثل فيلم «فتنة» الذي قوبل ببرود، ولم تسيَّر من أجله المظاهرات الاحتجاجية الضخمة. ورغم تحفظي المنهجي حول تصنيفاته الأيدلوجية للإسلام السياسي، إلا أني أتفق حول فرضيته الموضوعية أن الإسلام السياسي لا يمثل كل الإسلام، وهو بالتالي لا يمتلك سلطة تأويل النص الديني. على هذه القاعدة صنف د. العظم ما سمّاه النماذج الإسلامية الراهنة إلى ثلاثة أقسام:
أ. إسلام الدولة الرسمي البترودولاري، وهو من أنماط الإسلام الراديكالي الذي تمثله السعودية وإيران. وهو إسلام سلفي متزمت، يناهض الحريات الدينية وينتهك حقوق الإنسان ويضطهد المرأة ويمنع وجود أي تعددية دينية وأي أنساق ثقافية وفكرية أخرى مغايرة للإسلام البترودولاري. . وهو أيضًا إسلام الدولة الرسمي، حيث توفر المؤسسات الدينية المصنوعة سياج حماية أخلاقيًا وإضفاء الشرعية الدينية على الإسلام السلفي البترودولاري. تستمد إيران شرعيتها الدينية من ولاية الفقيه، كما ترفع السعودية شعار «القرآن دستورنا».
ب. الإسلام التفجيري الانتحاري. وهو الإسلام الجهادي الذي تتبناه طالبان، ورغم أن حماس وحزب الله بدأتا كحركات تحرر وطني، إلا أنهما انحدرتا إلى موقف طائفي، مما جعلهما ينخرطان تحت هذا التصنيف. وهذا النمط من الإسلام يقوم على مبدأ الحاكمية لله، ويؤمن بعقيدة التفجير وتجريد السيف لقتل الآخرين بحجة حماية الدين. وهذا النمط من الإسلام قاد صراعات عنيفة في الداخل حيث سعى لتكفير كافة الحكام، ودخل في حرب مكشوفة مع الغرب انتهت بأحداث «11» سبتمبر. . وينزع هذا النمط إلى معاداة الآخر الثقافي مثل قيام طالبان بتدمير تمثال بوذا في أفغانستان. وقال إن هذا الإسلام هو الذي قام بحرق رواية سلمان رشدي أمام الملأ، مشيرًا إلى أن هذه الراوية إذا كانت تخدش مشاعر أكثر من 2 مليار مسلم، فإن تدمير تمثال بوذا يؤذي مشاعر «3» مليار بوذي في العالم. واستغرب من موقف علماء المسلمين الذين لم يخرج أحدهم لإدانة فعل طالبان الشنيع.
ج. النمط الثالث هو إسلام البيزنس والسوق. وهو إسلام الطبقة الوسطى البرجوازية المرتبطة بالبنوك الإسلامية وصيغ المرابحات التجارية، وهذا يمثله النموذج التركي الذي اهتم بالبُعد الاقتصادي والريعي والخدمي. وعبر عن ذلك بقوله «الإسلام التجاري للطبقة الوسطى الذي ينتشر بصورة خاصة لدى البورجوازيين في الدول الإسلامية يمثل نموذجًا وسطيًا للإسلام». وهذا النوع من الإسلام يعتبر إسلامًا مسالمًا لا يتبنى العنف واستخدام القوة، كما أنه يهتم بتعميق مصالحه الاقتصادية. . وفي هذا الصدد أعلن حزب العدالة والتنمية في تركيا عن احترامه لأسس وقواعد الدولة الأتاتوركية العلمانية في تركيا. ولم يتجرأ لمهاجمة التراث الكمالي، كما لم يفرض إراداته وخياراته على الآخرين.
وأصبح هذا النموذج مؤثرًا على أنماط الإسلام في المنطقة العربية، حيث يتطلع إليه دعاة الإسلام السياسي ليستلهموا منه النموذج خاصة في التركيز على البناء الوطني وعدم إعطاء أولوية لقضايا الشريعة والحدود. لأن الدولة الإسلامية اختزلت الدين في الشريعة، واختزلت الشريعة في العقوبات، واختزلت الجزاءات في الحدود وقطع الأيدي، وحجاب المرأة فقط.
وقال د. العظم إن الفكر العلماني في المنطقة العربية تأسس على هدى كتاب علي عبدالرازق عن «الإسلام وأصول الحكم»، وصار الشعار هو «الدين لله والوطن للجميع». وقال إنه ربما يتفق مع بعض الناس الذين يظنون أن تأسيس مبادئ الفكر العلماني جاء من المفكرين المسيحيين في العالم العربي، وذلك هروبًا من اضطهاد الدولة الدينية. واشار الى أن النموذج التركي، يعبر عن توجهات المجتمع المدني. وذكر أن اليسار العربي انقسم الى تيارين بعد أن فشل في تحقيق مشروع الاشتراكية عقب نهاية الحرب الباردة. التيار الأكبر توجه الى مؤسسات المجتمع المدني مما عدها البعض انتهازية. ولكن عزا د. العظم هذا التوجه من اليسار العربي الى أنه تراجع الى خط الدفاع الثاني وهو البرجوازية الكلاسيكية على النمط الفرنسي، بعد فشلهم في تحقيق الاشتراكية. وتحدث بعدها عن الفتن الدينية والطائفية في العراق كنموذج لحالة التدهور والانفصام العربي. لأن الشيعة والسنة والأكراد فشلوا في خلق وحدة وطنية داخل العراق. وقدم عددًا من النصائح، مناديًا بضرورة التنازل الجماعي عن فكرة إلغاء الآخر. وقال: على السنة الاعتذار للشيعة عن الفظائع التي أرتكبوها في كربلاء وفي مقتل الحسين. وعلى الشيعة أيضًا التنازل عن ولاية الفقيه. واستنكر أن يرد مظاهر الفشل لأي عامل خارجي محملاً المسؤولية كاملة للداخل وليس للغزو أو الاستعمار الأجنبي.
وختم أفكاره الرئيسة قائلاً إن التاريخ الإسلامي الحديث ظل في حالة تدهور، وانحطاط دائم. فمنذ المشروع الثوري للأفغاني، بدأ الانحطاط بفكر محمد عبده، وبعده رشيد رضا السلفي، والإمام حسن البنا صاحب الفكر الارتدادي وسيد قطب، وانتهاءً بنموذج الإسلام التفجيري متمثلاً في طالبان وأسامة بن لادن.
منذ بضع سنوات خلت شاهدت الدكتور العظم محاورًا ومجادلاً في عدد من المنابر الإعلامية في العالم العربي، لعل أشهرها مناظرته في قناة الجزيرة مع الدكتور حسن الترابي حول حركات الإسلام السياسي في المنطقة. وكان د. العظم حينها ينكر بروز أي تمظهرات إسلامية، ويراهن على سقوط الإسلام السياسي رغم بروز مؤشرات مبكرة لصعود القوى الإسلامية في المنطقة.
دار نقاش بناء وجدل فاعل مع الحضور غلب عليه التركيز على الهموم القطرية في سوريا والعراق وغيرها من أحوال الدول العربية الأخرى. إحدى المداخلات النسائية ركزت على أن حزب العدالة والتنمية نجح في تركيا لا لأنه تبنى نموذجًا إسلاميًا مستنيرًا، ولكن لأنه التزم بأحكام الدستور العلماني. وردّت المتداخلة النجاحات التي حققها حزب العدالة الى قواعد الدستور العلماني التركي. وتم انتقاد التجربة التركية التي تضطهد الأكراد، والأقليات الأخرى، كما تم تسليط الضوء على ما سمّاه البعض نزعتها التوسعية التي تتجلى في عدد السدود التي ابتنتها تركيا على الأنهار المشتركة مع دول الجوار في المنطقة.
حاولت في مداخلتي أن أعيد الحوار الى منصة التأسيس، منتقدًا الخطاب الفكروسياسي للدكتور صادق جلال العظم باعتباره يكرس لحتمية الصدام التاريخي بين العلمانية والإسلام. واشرت الى أن أصداء هذا الخطاب الذي شهد بروزًا مائزًا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بدأ يخفت شيئًا ما في السنوات الأخيرة نسبة لسقوط الأيدلوجيا، واتساع رقعة المشتركات الإنسانية، والقيم المدنية التي تقوم على حقوق المواطنة، واستقرار الاختلاف حول جدوى الشفافية ونجاعة الديمقراطية لدول منطقتنا العربية، ولعل العامل الأهم هو سقوط الديكتاتوريات التي كانت تكرس لمثل هذا الصدام. كما قلل من غلواء هذا الانفصام التوحد المؤقت بين القوميين وبعض الإسلاميين لمواجهة الهيمنة الغربية في المنطقة سيما بعد حرب الخليج الثانية. ولعل ملامح القبول المشترك ترتسم في الأفق بعد ثورات الربيع العربي، حيث يركز الجميع على ضرورة إنجاح تجربة التحولات الديمقراطية حتى لا يسطو عليها مغامر جديد.
وأشرت في حديثي الى أن هناك شبه إجماع وسط الدارسين والمهتمين بتطورات الأوضاع السياسية والفكرية في المنطقة، بأن فشل مشروعات الحداثة هو العامل الأهم في كل مظاهر التدهور والانحطاط. وربطها التقرير العربي للتنمية البشرية من قبل لما سمّاه الثقب الأسود. ورد د. برنارد لويس في كتابه الشهير «ما الخطأ» هذا الانحطاط الى فشل نماذج التحديث وكذلك غياب الحريات وتفشي الدكتاتوريات.
واستمر بعض الحجاح المنطقي حول زعم د. العظم أن الصراع بين التيارات الإسلامية يدور حول امتلاك سلطة التأويل، وقلت إن ما يهمله دعاة هذا الخطاب، هو أن الدولة ما بعد الكولونيالية في العالم العربي هي دولة علمانية بامتياز. وبالتالي فإن المشروع العلماني بتمظهراته السياسية والفكرية التي ظلت مسيطرة على المشهد العربي طيلة الخمس عقود الماضية تتحمل نتائج الفشل والتدهور والانحطاط، ومآلات الأوضاع في المنطقة. فهذا المشروع سقط في امتحانات تحرير الأراضي العربية المحتلة، كما فشل أيضًا في تحرير وتجديد الفكر العربي. ولم يستطع المشروع العلماني أن يقدم مشروعًا نهضويًا تنويريًا يلتف حوله الناس. هذا فضلاً عن استشراء آلة القمع والدكتاتورية وبروز ظاهرة التوريث الأسري. وبالطبع فليس من المنطقي أن نحمل هذا الفشل بأسره لسيادة المشروع العلماني، ولكنه قطعًا يعد أحد أبرز أسباب الانحطاط.. لذا من باب أولى توجيه سهام النقد للمشروع العلماني ونتائج فشله طيلة العقود الخمسة الماضية وليس القفز فوق المراحل لمحاكمة الظاهرة الإسلامية الراهنة. والعلمانية كما طرح بعض المفكرين مؤخرًا لم تولد كمشروع فلسفي نظري متماسك، بل بدأت باعتبارها ترتيبات إجرائية لفض الاشتباك بين الدولة والمؤسسة الدينية في إطار الإصلاحات واستعادة الإجماع الذي مزقته الحروب الدينية في القرن السابع عشر. أهم ما أفرزته هذه الإصلاحات في إطار التجربة الغربية هو حيادية الدولة تجاه المعتقدات الدينية.
في المقابل فإنه لا يوجد تعريف جامع مانع لما يسمى بالدولة الإسلامية، بل مازال هذا المفهوم محط خلاف بين النخب. لأن الله لم يأمر عباده وينزل عليهم نموذجًا مصمتًا يتم تطبيقه في كل المجتمعات والدول فتتحول حياة الناس بين يوم وليلة إلى جنات من نخيل وأعناب وعيون وأنهار من عسل ولبن ولؤلؤ مكنون. إن أي طرح إسلامي صادر عن جماعة ما، يمثل اجتهادها حسب تصوراتها لمبادئ وقيم الدين، وبما يتناسب مع مقتضياتها وأوضاع عصرها وتحدياتها الراهنة وتعقيداتها المحلية. وبالتالي فإن هذا التصور ليس مقدسًا، بل قابل للانتقاد والتصويب. وبهذا فإن جوهر توجهات هذه الدولة هي «الناس»، وهي دولة المسلمين لأنها صادرة وفق تصورهم لمقتضيات الدين، وليست دولة إسلامية مقدسة السياسات، والوسائل وكاملة الحصانة ضد معارضيها ومنتقديها. وربما تتعدد المصطلحات لوصفها، فمنهم من يصفها بأنها دولة وظيفية غير عقدية، ومنهم من يقول إنها دولة تعاقدية أو دولة وظيفية رسالية، ومنهم من يقول إنها دولة مدنية كما قال محمد عبده وكما يصفها د. القرضاوي في الوقت الراهن. ولكن مع تعدد كل هذه الأوصاف لم يصفها أحد بأنها دولة مقدسة بمعنى أن تشريعاتها المستمدة من التصور الإسلامي تتشرب قداسة النصوص القرآنية لأنها في الأساس اجتهاد بشري لبلوغ المثال من مراد الإسلام حسب الأحوال والأقضية. كما أن الدولة الإسلامية ليست دولة أرثذوكسية، توجد فيها طبقة من الأكليروس تحتكر الحقيقة المطلقة وسلطة التأويل وتفسير الدين كما يدعي د. جلال العظم. وبالتالي فإن التصنيف الذي عدده د. جلال العظم حول وجود دولة إسلامية متفق عليها، وهي في الأساس دولة دينية ثيوقراطية تعتبر وصفًا غير صحيح وتفتقد المعيار العلمي الدقيق. في المقابل فإن الخطل الأكبر في تقديري هو نزوع د. العظم على اطلاق تصنيفات هي للشعارات أقرب منها الى الدقة العلمية، مثل وصفه للنموذج التركي باعتباره إسلام الأسواق والبيزنس الذي يتسم بتسامح كبير، وأنه نموذج يرى الحل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وليس في تطبيق الشريعة.
إن جوهر أطروحة د. العظم هي وجود تيار ثالث بين نمطي الإسلام الراديكالي )إسلام الدولة الرسمي البترودولاري، وإسلام العنف والجهاد(، هذا التيار الثالث هو الذي يسميه إسلام )السوق والبيزنس(، ويعده النموذج الأفضل والأمثل. إن تحليل ظاهرة الصحوة الإسلامية في المنطقة، ورد النموذج التركي الى عامل السوق والاقتصاد فقط لهو الخطل بعينه. لأن بنية التدين الاجتماعي في تركيا ترتكز على إرث تاريخي طويل، وظلت قواعده حية في وجدان الشعب التركي لعقود طويلة رغم شراسة السياسات الكمالية، وحراستها بقوة الجيش وحماية الدستور.
للدارس في كتاب «العمق الإستراتيجي موقع تركيا، ودورها في السياسة الدولية» للدكتور أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي والأب المنظر لسياسات تركيا الخارجية مندوحة عن الشرح، إذ صاغ نموذجًا إستراتيجيًا لإعادة تنميط الصورة التركية و بناء دورها في المنطقة الإقليمية عن طريق التوجه بقوة نحو الاتحاد الأوروبي، وربط التطور الاقتصادي والتنموي لتركيا بالسوق الإقليمية والأوروبية، واستمرار سياساتها الدفاعية بعضويتها في حلف الناتو، واتباع سياسة نزاع صفرية مع الجيران، وتقوية التوجه نحو الشرق الأوسط، وإعادة بناء النفوذ التركي التقليدي في المنطقة. هذه المرتكزات الإستراتيجية لتركيا في إطار فلسفتها نحو الديمقراطية المحافظة والمراهنة على الخيار الديمقراطي هي توجهات اقتضتها طبيعة الصراع الداخلي، والمحددات السياسية والحضارية والجغرافية لتركيا، وليست منطلقة من إلهام ديني أو نصوص قرآنية مقدسة، لأن التصور الإسلامي يرد الترتيبات السياسية والإدارية الى الناس. لذا فإن تحليل د. صادق جلال العظم الذي يختزل بروز ظاهرة الإسلام السياسي في جل المنطقة العربية، ويردها الى أسباب كلاسيكية منها الفقر، والجهل، يفتقر للتماسك المنطقي، ويعبر عن ذهنية وصائية، تتعارض مع ما تدعو اليه هذه النخب من أهمية توطين الديمقراطية.
لقد خالفني د. جلال العظم في رده على مداخلتي حيث طرحت له أن التحليل الأدق لبروز الظاهرة الإسلامية في المنطقة العربية، يعود الى فشل المشروع العلماني الذي ظل متحكمًا منذ انهيار الدولة الكولونيالية. وهو المشروع الذي سلب الناس خياراتهم، وأورثهم الهزائم والديكتاتوريات، فالتجأ الناس هاربين أو طائعين الى ظلال الطرح الإسلامي. وسيتعرض هذا الطرح الى مجامر الاختبار فإذا استجاب لتطلعات الناس، في الحرية والكرامة والتنمية والعدالة والاستقامة الأخلاقية فسيجدد الناس ثقتهم في مشروعات الطرح الإسلامي، وإلا فإن خيارات البحث عن بدائل أخرى ستتواصل وتستمر، وسيشكل هذا التدافع ملامح الحراك والتفاعلات السياسية والفكرية والاجتماعية في الفترة القادمة. ويؤكد د. العظم أن المشروع العلماني لم يفشل بل فشلت محاولات تطبيق بعض نماذجه.
إن جوهر الخلاف مع أطروحة د. صادق جلال العظم تكمن في المفاهيم والمصطلحات أكثر من الخلاصات. لأن معايير التصنيف «لإسلام راديكالي وإسلام سوق» ينطوي على قدر من التطفيف المعرفي. فالنموذج التركي بسمته الليبرالي يعتبر تطورًا طبيعيًا لتجربة الإسلام السياسي في المنطقة، حيث قام حزب العدالة والتنمية بالاستفادة من تجارب التيارات الإسلامية المعاصرة بما فيها تجربة حزب الرفاه داخل تركيا، وبنى فلسفته ومشروعه الخاص الذي يرتكز على مبادئ إسلامية وإنسانية حقيقية. وبالتالي فهو ليس نابعًا من السوق والبيزنس الذي يرتبط بالحراك الاقتصادي والطبقة الوسطى فقط كما يدّعي د. العظم، ولكنه بروز جديد لنموذج من حركة الإسلام تمزج بطريقة مبدعة بين المبادئ الإسلامية، والقيم العلمانية، والتوجهات الليبرالية المحافظة حسب مقتضيات الواقع.
إن وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان كما قال أردوغان في تعريفه لعلمانية الدولة التركية يبقى أحد أهم النماذج المعاصرة، ولعل أطروحة د. عبدالله النعيم حول تدين المجتمع وعلمانية الدولة تجد حظها من النقاش الجاد والمشروعية الفكرية في ظل البحث عن صياغة مفهوم جديد لمستقبل الدولة الإسلامية. ولن يتم ذلك إلا حين يتم تجاوز جدل المصطلحات الى جوهر قضية الحكم في الإسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.