دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة حوار حول العلمانية مع الدكتور صادق جلال العظم
نشر في الراكوبة يوم 21 - 03 - 2012

إستضافت مؤسسة بن رشد للفكر الحر ببرلين الأسبوع الماضي الدكتور صادق جلال العظم في محاضرة عن «العلمانية والمسألة الدينية- تركيا نموذجا»، وتداعت طوائف اليسار العربي لسماع ما يشفي غليلها بشأن التحولات والمخاضات الكبري التي تمر بها المنطقة العربية جراء صعود الإسلاميين والتحديات التي يواجهها المشروع العلماني، ومدي مقاربة النموذج التركي لما يسميه أنماط الإسلام الراديكالي في المنطقة. يعد الدكتور صادق العظم من أبرز رموز الفكر العلماني المعاصر في العالم العربي، وله إسهامات معرفية عميقة التأثير أحدثت جدلا واسعا خاصة كتبه «نقد الفكر الديني، وما بعد ذهنية التحريم». إستقي الدكتور جلال العظم جدليات منهجه النقدي تجاه الفكر الديني، ودفاعه عن المادية من فلسفة كانط ونظريته في المعرفة التي كانت مبحثه الأساس في أطروحته الأكاديمية.
بدأ د. العظم محاضرته بحكاية رمزية،حيث قال:دخلت الي مكتب عميد كلية الآداب بجامعة دمشق عندما كنت رئيسا لقسم الفلسفة، ولمحت في زاوية الساحة المجاورة زميلين يتجادلان بجدية وصوت مرتفع وحماسة زائدة، تكاد تري فوران الدم في عروقهما. وقال: عندما اقتربت وجدتهما يتناقشان عن علي ومعاوية. فدهشت وقلت لهما أتتناقشان بهذه الحدة علي حدث مضي عليه أربعة عشر قرنا، كأنه حدث بالأمس؟هذا النمط من التفكير الذي يرهن المستقبل لكل الأحداث الماضية فيه خطورة علي التقدم والتطور في البلاد العربية، ويعمق من نزعات التخلف والإنحطاط التي نعاني منها.
إنطلق د. العظم في محاضرته من ميسم أفكاره التأسيسية حول الصدام الحتمي بين الفكر الديني ومشروع الإستنارة العلماني.معيدا إنتاج مبحثه التاريخي حول النقد الذاتي بعد الهزيمة عام 1968،والذي أعقبه بأطروحة نقد العقل الديني عام 1969. وأحتفي د. العظم بما أسماه نزع القداسة عن نقد الدين، مشيرا الي أن المجتمعات الإسلامية أصبحت أقل شراسة تجاه الأفلام المسيئة مثل فيلم «فتنة» الذي قوبل ببرود، ولم تسير من أجله المظاهرات الإحتجاجية الضخمة. ورغم تحفظي المنهجي حول تصنيفاته الأيدلوجية للإسلام السياسي، إلا أني أتفق حول فرضيته الموضوعية أن الإسلام السياسي لا يمثل كل الإسلام، وهو بالتالي لا يمتلك سلطة تأويل النص الديني. علي هذه القاعدة صنف د. العظم ما أسماه النماذج الإسلامية الراهنة الي ثلاثة أقسام:
أ.إسلام الدولة الرسمي البترودولاري، وهو من أنماط الإسلام الراديكالي الذي تمثله السعودية وأيران. وهو إسلام سلفي متزمت، يناهض الحريات الدينية وينتهك حقوق الإنسان ويضطهد المرأة ويمنع وجود أي تعددية دينية و أي أنساق ثقافية وفكرية أخري مغايرة للإسلام البترودولاري.وهو أيضا إسلام الدولة الرسمي، حيث توفر المؤسسات الدينية المصنوعة سياج حماية أخلاقي وإضفاء الشرعية الدينية علي الإسلام السلفي البترودولاري.تستمد إيران شرعيتها الدينية من ولاية الفقيه، كما ترفع السعودية شعار
« القرآن دستورنا».
ب.الإسلام التفجيري الإنتحاري. وهو الإسلام الجهادي الذي تتبناه طالبان، ورغم أن حماس وحزب الله بدأتا كحركات تحرر وطني، إلا أنهما إنحدرتا الي موقف طائفي، مما جعلهما ينخرطان تحت هذا التصنيف. وهذا النمط من الإسلام يقوم علي مبدأ الحاكمية لله، ويؤمن بعقيدة التفجير وتجريد السيف لقتل الآخرين بحجة حماية الدين. وهذا النمط من الإسلام قاد صراعات عنيفة في الداخل حيث سعي لتكفير كافة الحكام ، ودخل في حرب مكشوفة مع الغرب إنتهت بأحداث 11 سبتمبر.وينزع هذا النمط الي معاداة الآخر الثقافي مثل قيام طالبان بتدمير تمثال بوذا في أفغانستان. وقال إن هذا الإسلام هو الذي قام بحرق رواية سلمان رشدي أمام الملأ، مشيرا الي أن هذه الراوية إذا كانت تخدش مشاعر أكثر من 2 مليار مسلم، فإن تدمير تمثال بوذا يؤذي مشاعر 3 مليار بوذي في العالم. وأستغرب من موقف علماء المسلمين الذين لم يخرج أحدهم لإدانة فعل طالبان الشنيع.
ج. النمط الثالث هو إسلام البيزنس والسوق. وهو إسلام الطبقة الوسطي البرجوازية المرتبطة بالبنوك الإسلامية وصيغ المرابحات التجارية، وهذا يمثله النموذج التركي الذي إهتم بالبعد الإقتصادي والريعي والخدمي.وعبر عن ذلك بقوله « الإسلام التجاري للطبقة الوسطى الذي ينتشر بصورة خاصة لدى البورجوازيين في الدول الإسلامية يمثل نموذجا وسطيا للإسلام». وهذا النوع من الإسلام يعتبر إسلاما مسالما لا يتبني العنف وإستخدام القوة، كما أنه يهتم بتعميق مصالحه الإقتصادية.وفي هذا الصدد أعلن حزب العدالة والتنمية في تركيا عن إحترامه لأسس وقواعد الدولة الأتاتوركية العلمانية في تركيا. ولم يتجرأ لمهاجمة التراث الكمالي،كما لم يفرض إراداته وخياراته علي الآخرين.
وأصبح هذا النموذج مؤثرا علي انماط الإسلام في المنطقة العربية، حيث يتطلع اليه دعاة الإسلام السياسي ليستلهموا منه النموذج خاصة في التركيز علي البناء الوطني و عدم أعطاء أولوية لقضايا الشريعة والحدود. لأن الدولة الإسلامية إختزلت الدين في الشريعة ، واختزلت الشريعة في العقوبات، واختزلت الجزاءات في الحدود وقطع الأيدي، وحجاب المرأة فقط.
وقال د. العظم إن الفكر العلماني في المنطقة العربية تأسس علي هدي كتاب علي عبدالرازق عن (الإسلام وأصول الحكم)، وصار الشعار هو (الدين لله والوطن للجميع). وقال إنه ربما يتفق مع بعض الناس الذين يظنون أن تأسيس مبادئ الفكر العلماني جاء من المفكرين المسيحيين في العالم العربي، وذلك هروبا من إضطهاد الدولة الدينية. واشار الي أن النموذج التركي ، يعبر عن توجهات المجتمع المدني.وذكر أن اليسار العربي انقسم الي تيارين بعد أن فشل في تحقيق مشروع الإشتراكية عقب نهاية الحرب الباردة. التيار الأكبر توجه الي مؤسسات المجتمع المدني مما عدها البعض إنتهازية. ولكن عزي د. العظم هذا التوجه من اليسار العربي الي أنه تراجع الي خط الدفاع الثاني وهو البرجوازية الكلاسيكية علي النمط الفرنسي، بعد فشلهم في تحقيق الإشتراكية.وتحدث بعدها عن الفتن الدينية والطائفية في العراق كنموذج لحالة التدهور والإنفصام العربي.لأن الشيعة والسنة والأكراد فشلوا في خلق وحدة وطنية داخل العراق. وقدم عددا من النصائح، مناديا بضرورة التنازل الجماعي عن فكرة إلغاء الآخر. وقال علي السنة الإعتذار للشيعة عن الفظائع التي أرتكبوها في كربلاء وفي مقتل الحسين. وعلي الشيعة أيضا التنازل عن ولاية الفقيه. واستنكر أن يرد مظاهر الفشل لأي عامل خارجي محملا المسئولية كاملة للداخل وليس للغزو أو الإستعمار الأجنبي.
وختم أفكاره الرئيسية قائلا إن التاريخ الإسلامي الحديث ظل في حالة تدهور، وانحطاط دائم. فمنذ المشروع الثوري للأفغاني، بدأ الإنحطاط بفكر محمد عبده ، وبعده رشيد رضا السلفي، والإمام حسن البنا صاحب الفكر الإرتدادي وسيد قطب، وإنتهاءا بنموذج الإسلام التفجيري متمثلا في طالبان وأسامة بن لادن.
منذ بضع سنوات خلت شاهدت الدكتور العظم محاورا ومجادلا في عدد من المنابر الإعلامية في العالم العربي، لعل أشهرها مناظرته في قناة الجزيرة مع الدكتور حسن الترابي حول حركات الإسلام السياسي في المنطقة. وكان د. العظم حينها ينكر بروز أي تمظهرات إسلامية ، ويراهن علي سقوط الإسلام السياسي رغم بروز مؤشرات مبكرة لصعود القوي الإسلامية في المنطقة.
دار نقاش بناء وجدل فاعل مع الحضور غلب عليه التركيز علي الهموم القطرية في سوريا والعراق وغيرها من أحوال الدول العربية الأخري. إحدي المداخلات النسائية ركزت علي أن حزب العدالة والتنمية نجح في تركيا لا لأنه تبني نموذجا إسلاميا مستنيرا ، ولكن لأنه التزم بأحكام الدستور العلماني.وردت المتداخلة النجاحات التي حققها حزب العدالة الي قواعد الدستور العلماني التركي.وتم إنتقاد التجربة التركية التي تضطهد الأكراد، والأقليات الأخري، كما تم تسليط الضوء علي ما أسماه البعض نزعتها التوسعية التي تتجلي في عدد السدود التي أبتنتها تركيا علي الأنهار المشتركة مع دول الجوار في المنطقة.
حاولت في مداخلتي أن أعيد الحوار الي منصة التأسيس، منتقدا الخطاب الفكروسياسي للدكتور صادق جلال العظم بإعتباره يكرس لحتمية الصدام التاريخي بين العلمانية والإسلام. واشرت الي أن أصداء هذا الخطاب الذي شهد بروزا مائزا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، بدأ يخفت شيئا ما في السنوات الأخيرة نسبة لسقوط الأيدلوجيا،وإتساع رقعة المشتركات الإنسانية،والقيم المدنية التي تقوم علي حقوق المواطنة،وإستقرار الإختلاف حول جدوي الشفافية ونجاعة الديمقراطية لدول منطقتنا العربية،ولعل العامل الأهم هو سقوط الديكتاتوريات التي كانت تكرس لمثل هذا الصدام. كما قلل من غلواء هذا الإنفصام التوحد المؤقت بين القوميين وبعض الإسلاميين لمواجهة الهيمنة الغربية في المنطقة سيما بعد حرب الخليج الثانية. ولعل ملامح القبول المشترك ترتسم في الأفق بعد ثورات الربيع العربي، حيث يركز الجميع علي ضرورة إنجاح تجربة التحولات الديمقراطية حتي لا يسطو عليها مغامر جديد.
وأشرت في حديثي الي أن هناك شبه إجماع وسط الدارسين والمهتمين بتطورات الأوضاع السياسية والفكرية في المنطقة، بأن فشل مشروعات الحداثة هو العامل الأهم في كل مظاهر التدهور والإنحطاط. وربطها التقرير العربي للتنمية البشرية من قبل لما أسماه الثقب الأسود. ورد د. برنارد لويس في كتابه الشهير (ما الخطأ) هذا الإنحطاط الي فشل نماذج التحديث وكذلك غياب الحريات وتفشي الدكتاتوريات.
وأستمر بعض الحجاح المنطقي حول زعم د. العظم أن الصراع بين التيارات الإسلامية يدور حول إمتلاك سلطة التأويل، وقلت إن ما يهمله دعاة هذا الخطاب، هو أن الدولة ما بعد الكولونيالية في العالم العربي هي دولة علمانية بإمتياز. وبالتالي فأن المشروع العلماني بتمظهراته السياسية والفكرية التي ظلت مسيطرة علي المشهد العربي طيلة الخمس عقود الماضية تتحمل نتائج الفشل والتدهور والإنحطاط، ومآلات الأوضاع في المنطقة. فهذا المشروع سقط في أمتحانات تحرير الأراضي العربية المحتلة، كما فشل أيضا في تحرير وتجديد الفكر العربي. ولم يستطع المشروع العلماني أن يقدم مشروعا نهضويا تنويريا يلتف حوله الناس.هذا فضلا عن إستشراء آلة القمع والدكتاتورية وبروز ظاهرة التوريث الأسري.وبالطبع فليس من المنطقي أن نحمل هذا الفشل بأسره لسيادة المشروع العلماني، ولكنه قطعا يعد أحد أبرز أسباب الإنحطاط .لذا من باب أولي توجيه سهام النقد للمشروع العلماني ونتائج فشله طيلة العقود الخمس الماضية وليس القفز فوق المراحل لمحاكمة الظاهرة الإسلامية الراهنة. والعلمانية كما طرح بعض المفكرين مؤخرا لم تولد كمشروع فلسفي نظري متماسك، بل بدأت بإعتبارها ترتيبات إجرائية لفض الإشتباك بين الدولة والمؤسسة الدينية في إطار الإصلاحات وإستعادة الإجماع الذي مزقته الحروب الدينية في القرن السابع عشر. أهم ما أفرزته هذه الإصلاحات في إطار التجربة الغربية هو حيادية الدولة تجاه المعتقدات الدينية.
في المقابل فإنه لا يوجد تعريف جامع مانع لما يسمي بالدولة الإسلامية، بل مازال هذا المفهوم محط خلاف بين النخب.لأن الله لم يأمر عباده وينزل عليهم نموذجا مصمتا يتم تطبيقه في كل المجتمعات والدول فتتحول حياة الناس بين يوم وليلة الي جنات من نخيل وأعناب وعيون وأنهار من عسل ولبن ولؤلؤ مكنون.إن أي طرح إسلامي صادر من جماعة ما، يمثل إجتهادها حسب تصوراتها لمبادئ وقيم الدين، وبما يتناسب مع مقتضياتها وأوضاع عصرها وتحدياتها الراهنة وتعقيداتها المحلية. وبالتالي فإن هذا التصور ليس مقدسا، بل قابل للإنتقاد والتصويب. وبهذا فأن جوهر توجهات هذه الدولة هي «الناس»، وهي دولة المسلمين لأنها صادرة وفق تصورهم لمقتضيات الدين، و ليست دولة إسلامية مقدسة السياسات، والوسائل وكاملة الحصانة ضد معارضيها ومنتقديها.وربما تتعدد المصطلحات لوصفها، فمنهم من يصفها بأنها دولة وظيفية غير عقدية، ومنهم من يقول أنها دولة تعاقدية أو دولة وظيفية رسالية، ومنهم من يقول إنها دولة مدنية كما قال محمد عبده وكما يصفها د.القرضاوي في الوقت الراهن. ولكن مع تعدد كل هذه الأوصاف لم يصفها أحد بأنها دولة مقدسة بمعني أن تشريعاتها المستمدة من التصور الإسلامي تتشرب قداسة النصوص القرآنية لأنها في الأساس إجتهاد بشري لبلوغ المثال من مراد الإسلام حسب الأحوال والأقضية. كما أن الدولة الإسلامية ليست دولة أرثذوكسية ، توجد فيها طبقة من الأكليروس تحتكر الحقيقة المطلقة وسلطة التأويل وتفسير الدين كما يدعي د. جلال العظم. وبالتالي فإن التصنيف الذي عدده د. جلال العظم حول وجود دولة إسلامية متفق عليها، وهي في الأساس دولة دينية ثيوقراطية تعتبرا وصفا غير صحيح وتفتقد المعيار العلمي الدقيق. في المقابل فإن الخطل الأكبر في تقديري هو نزوع د. العظم علي اطلاق تصنيفات هي للشعارات أقرب منها الي الدقة العلمية، مثل وصفه للنموذج التركي بإعتباره إسلام الأسواق والبيزنس الذي يتسم بتسامح كبير، وأنه نموذج يري الحل في الإنضمام الي الإتحاد الأوروبي وليس في تطبيق الشريعة.
إن جوهر أطروحة د. العظم هي وجود تيار ثالث بين نمطي الإسلام الراديكالي )إسلام الدولة الرسمي البترودولاري، وإسلام العنف والجهاد(، هذا التيار الثالث هو الذي يسميه إسلام )السوق والبيزنس(، ويعده النموذج الأفضل والأمثل. إن تحليل ظاهرة الصحوة الإسلامية في المنطقة ، ورد النموذج التركي الي عامل السوق والإقتصاد فقط لهو الخطل بعينه.لأن بنية التدين الإجتماعي في تركيا ترتكز علي إرث تاريخي طويل، وظلت قواعده حية في وجدان الشعب التركي لعقود طويلة رغم شراسة السياسات الكمالية، وحراستها بقوة الجيش وحماية الدستور.
للدارس في كتاب «العمق الاستراتيجي - موقع تركيا، ودورها في السياسة الدولية» للدكتور أحمد داؤود أوغلو وزير الخارجية التركي والأب المنظر لسياسات تركيا الخارجية مندوحة عن الشرح، إذ صاغ نموذجا إستراتيجيا لإعادة تنميط الصورة التركية و بناء دورها في المنطقة الإقليمية عن طريق التوجه بقوة نحو الإتحاد الأوروبي، وربط التطور الإقتصادي والتنموي لتركيا بالسوق الإقليمية والأوروبية، وإستمرار سياساتها الدفاعية بعضويتها في حلف الناتو،وإتباع سياسة نزاع صفرية مع الجيران، وتقوية التوجه نحو الشرق الأوسط، وإعادة بناء النفوذ التركي التقليدي في المنطقة.هذه المرتكزات الإستراتيجية لتركيا في إطار فلسفتها نحو الديمقراطية المحافظة والمراهنة علي الخيار الديمقراطي هي توجهات إقتضتها طبيعة الصراع الداخلي، والمحددات السياسية والحضارية والجغرافية لتركيا، وليست منطلقة من إلهام ديني أو نصوص قرآنية مقدسة ، لأن التصور الإسلامي يرد الترتيبات السياسية والإدارية الي الناس. لذا فإن تحليل د. صادق جلال العظم الذي يختزل بروز ظاهرة الإسلام السياسي في جل المنطقة العربية، ويردها الي أسباب كلاسيكية منها الفقر، والجهل، يفتقر للتماسك المنطقي، و يعبر عن ذهنية وصائية، تتعارض مع ما تدعو اليه هذه النخب من أهمية توطين الديمقراطية.
لقد خالفني د. جلال العظم في رده علي مداخلتي حيث طرحت له أن التحليل الأدق لبروز الظاهرة الإسلامية في المنطقة العربية، يعود الي فشل المشروع العلماني الذي ظل متحكما منذ إنهيار الدولة الكولونيالية. وهو المشروع الذي سلب الناس خياراتهم، وأورثهم الهزائم والديكتاتوريات، فالتجأ الناس هاربين أو طائعين الي ظلال الطرح الإسلامي. وسيتعرض هذا الطرح الي مجامر الإختبار فإذا إستجاب لتطلعات الناس، في الحرية والكرامة والتنمية والعدالة والإستقامة الأخلاقية فسيجدد الناس ثقتهم في مشروعات الطرح الإسلامي، وإلا فإن خيارات البحث عن بدائل الاخري ستتواصل وتستمر، وسيشكل هذا التدافع ملامح الحراك والتفاعلات السياسية والفكرية والإجتماعية في الفترة القادمة. ويؤكد د. العظم أن المشروع العلماني لم يفشل بل فشلت محاولات تطبيق بعض نماذجه.
إن جوهر الخلاف مع أطروحة د. صادق جلال العظم تكمن في المفاهيم والمصطلحات أكثر من الخلاصات.لأن معايير التصنيف «لإسلام راديكالي وإسلام سوق» ينطوي علي قدر من التطفيف المعرفي. فالنموذج التركي بسمته الليبرالي يعتبر تطورا طبيعيا لتجربة الإسلام السياسي في المنطقة، حيث قام حزب العدالة والتنمية بالإستفادة من تجارب التيارات الإسلامية المعاصرة بما فيها تجربة حزب الرفاه داخل تركيا، وبني فلسفته ومشروعه الخاص الذي يرتكز علي مبادئ إسلامية وإنسانية حقيقية.وبالتالي فهو ليس نابع من السوق والبيزنس الذي يرتبط بالحراك الإقتصادي والطبقة الوسطي فقط كما يدعي د. العظم، ولكنه بروز جديد لنموذج من حركة الإسلام تمزج بطريقة مبدعة بين المباديء الإسلامية، والقيم العلمانية، والتوجهات الليبرالية المحافظة حسب مقتضيات الواقع.
إن وقوف الدولة علي مسافة متساوية من جميع الأديان كما قال أردوغان في تعريفه لعلمانية الدولة التركية يبقي أحد أهم النماذج المعاصرة، ولعل أطروحة د. عبدالله النعيم حول تدين المجتمع وعلمانية الدولة تجد حظها من النقاش الجاد والمشروعية الفكرية في ظل البحث عن صياغة مفهوم جديد لمستقبل الدولة الإسلامية.ولن يتم ذلك إلا حين يتم تجاوز جدل المصطلحات الي جوهر قضية الحكم في الإسلام.
الاحداث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.