أعرف الطيب مصطفى بوصفه شخصاً عامً، ولا أذكر أننا التقينا في أية مناسبة عامة أو خاصة.. ولفت نظري لأول مرة في هجومه العنيف على إدارة إحدى شركات الهواتف، مما أدى في اعتقادي إلى تقويم مسارها وانطلاقها إلى الأسواق الإقليمية فالعالمية.. ثم فاجأ الجميع وهم في نشوة «النصر» وأنا منهم بالهجوم على اتفاقية السلام الشامل، رغم ما حذَّرت به نصوصها من يتعرض إليها بما يمكن أن يفسر بأنه ضد «الوحدة الجاذبة». فقد كان واضحاً وشجاعاً، وصوّب قذائفه مباشرة ضد الاتفاقية والفريق المفاوض، وتحاشى في البداية «الفيل» إلى أن بدأ يناله تلميحاً ثم تصريحاً.. وحدد هدفه في الانفصال، فعمل له بكل جدية جامعاً حوله رويداً رويداً رأياً عاماً من زملاء التنظيم، وحتى لا يحرج من يحرجون من تأييده علناً كسب قلوبهم بأن طرح منبره على أنه ليس جزءاً من المؤتمر الوطني. فالتفوا حوله أكثر. وفي الوقت الذي كان فيه زعماء المعارضة يتحدثون عن «ثنائية الاتفاقية» دون أن يجرؤ أحد على رفض الوحدة التي «قد» تقود إليها، فإنه ظل واضحاً وشجاعاً.. والوضوح والشجاعة والثبات على المبدأ كان ومازال هو ما ميزه عن بقية القيادات في الحكومة والمعارضة وشبه المعارضة.. فلا يبدد طاقاته للبحث عن العبارات المنمقة أو التصريحات المبهمة.. ورغم أني بكل الصدق لا أوافقه على كل آرائه وأفكاره إلا إنني وبكل الصدق أيضاً أكبر فيه أسلوب القيادة الجديد الذي يتبناه، وأقول الجديد لأن قياداتنا الكبرى مازالت تتبع هنا في كل موقف وفي كل حدث نهجاً لا تدري مثل أي مواطن عادي مثلي أين تقف إزاءه اليوم، وإذا وفقت وعرفت أين تقف لا تدري إلى متى تظل هي في ذلك الموقف. لقد ظل الجميع «يتفرجون» على الطيب مصطفى وهو يحمل قلماً وثماني ورقات قل «16» صفحة وهو يمزق مجلدات من أوراق نيفاشا تحمل مئات التوقيعات من «الشهود» من كل أنحاء العالم. يتفرجون عليه عندما يجدون «فسحة» من الراحة من المشاكسات والمشاحنات والمكايدات سواء ضد بعضهم البعض أو ضد القيادات الجنوبية.. وهو سائر في مخططه وهم يتصايحون ويهدأون ويهرع إليهم الوسطاء والأصدقاء الألداء وهو سائر يشتمونه ويشتمهم.. وهو سائر. وعندما أفاقوا كان قد بلغ الهدف ووصل «الميس». وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.. لكن سرعان ما فرحوا مثله، وبلغت الشجاعة ببعضهم أن اعترف بالحمل الثقيل الذي أزاحه الطيب مصطفى عن كاهلهم ووقفت شجاعة البعض عند الصمت. وعندما أقبل دكتور نافع علي نافع وهو من هو سواء في قمة التنظيم أو النظام، على توقيع اتفاق جديد من رحم نيفاشا مع دولة جنوب السودان، كنت أول من استبشر بالموقف «المرن» والواقعي الذي انتهجه رغم ما عُرف عنه من تشدد في الفعل والقول، ولكني بمجرد أن قرأت رأي الطيب مصطفى أيقنت أن «لحس الكوع» ليس من المستحيلات.. وبالفعل اختفى الاتفاق نهائياً في أيام تاركاً فقط الدهشة في الشارع السوداني وفي قطيعة صالونات الخرطوم. ورغم أسفي لموت الاتفاق ازداد إعجابي بالقائد. غير أنه عندما تم توقيع اتفاق «الحريات الأربع» كما سمي كنت حذراً، إذ أن هذه الحريات لم تطبق مع دولة الجنوب غطت الفرحة الكل من أصغر مستضعف مثلي في جمهورية السودان إلى أكبر رأس في قمة العالم «بان كي مون» سكرتير عام الأممالمتحدة. ولم أفصح عن مشاعري انتظاراً لرأي الطيب مصطفى حتى لا أتعرض إلى «شماتة» بعض الأصدقاء.. وجاء القول الفصل: رفض كامل للاتفاق.. ما العمل؟! بدأت بعد يومين بعض الفقرات... وبعض التخريجات.. وبعض الاشتراكات.. كل ذلك ووزير الخارجية علي كرتي يبشر بأن الزعيمين عمر وسلفا كير سوف يوقعان على الوثيقة في جوبا.. والدعوة حملها رأس المتشددين في الجنوب هذه المرة باقان أموم.. سوف تتم الزيارة إلى جوبا وقد يتم التوقيع، ولكن ولكن ولكن من واقع ما هو أكبر «نيفاشا» وما هو أصغر «أديس أبابا» فإن الحبر سيظل على الورق: إذ حرك رفض الطيب مصطفى «الواضح» رفضاً «مغلفاً» من الحاج آدم نائب الرئيس ومن عبد الرحيم وزير الدفاع، وحتى من الناطق الرسمي باسم الجيش الصوارمي. الهجوم على الطيب مصطفى سيزداد باعتباره الذي يطفئ كل بارقة لانفراج مع الجنوب، ولكن القليلين هم الذين يعلمون أنه يريد للطاقات أن تتفجر في خدمة السودان الذي بقي!! منبر الطيب مصطفى يقوم حالياً وفي صمت بنشاط اجتماعي وخدمي لم تعرفه أحزابنا، بل كان يقوم به بعض اتحادات الطلبة في الإجازات قبل تسييسها: يسمع المنبر عن مشكلة في البيئة أو في الصحة أو في المدارس في جهة ما.. فيقوم في صمت بتسيير قافلة وتجنيد شباب يفاجأ بهم أهل المشكلة ويقدمون لهم ولو جهد المقل، إذ أن المثل السوداني يقول «السماك ما صغرك» وأحزابنا مشغولة بالأشياء والخلافات الكبيرة: الدستور «مهم: لكن المواطن لم يعش يوماً بدون دستور، ولكنه لم يجن شيئاً في وجود دستور».. كيفية تغيير النظام: إزاحته أو إصلاحه «إيه يعني: ما هي كلها أنظمة: ما أزيح منها وما يعملون لإزاحته».. ثم يقف الأمر عند القوافل، ولكن وصلت إلى اقاصي السودان مجموعة شباب «فتحت» دوراً لمنبر السلام العادل: صغيراً في حجمه فعالاً أو كما يقولون فاعلاً في وجوده.. يلتقي المواطنين وقيادات الزعامات الأهلية ويبحث معهم «المسائل الصغيرة الكبيرة». وكيف يمكن للمنبر أن يساعد مجرد مساعدة في التخفيف عنها أو في حلها.. نفس الأسلوب الذي ظلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر تتبعه مع المواطنين حتى الحزبيين منهم، فكانت هي الحاضر الحي في الحياة اليومية للمواطن المصري، ولما جاءت ساعة الحسم اكتسحت مع حلفائها ما يقارب التسعين في المئة من مقاعد المحليين التشريعيين «ما فيش تعيينات» ومازالت الأحزاب في مصر تناقش وتتناطح مثلنا في المشكلات «الكبيرة» الدستور وشكل الدولة رئاسية أم برلمانية. ولا يخالجني أدنى شك في أنه بهذا النهج في القيادة من الطيب مصطفى وبهذا الأسلوب الذي ينفذ مباشرة إلى المشكلة ويصدر على الفور الرأي والقرار ثم الثبات على المبدأ والعمل بصلابة وصبر من أجله مع الاختلاف معه، سوف يصل إلى نتائج يصعب عندئذٍ على الجميع تجاهلها، إذ سوف تفرض وجودها عليهم جميعاً دون ضجيج أو خطب أو تعبيرات مستملحة أو مستهجنة، فالمواطن في نهاية الأمر يهمه من الدولة أن تطعمه من جوع وأن تأمنه من خوف، كما يهمه في نهاية الأمر من قيادة الحزب الذي ينتمي إليه أن تحسن قيادته: تخطط وتحدد الهدف وتعلنه في وضوح وشجاعة، وأن تقوده إليه في ثبات وشجاعة. ورغم اختلافي في الرأي والفكر مع الطيب مصطفى، إلا أنني تمنيت لو تجدي الأماني أن يكون رئيساً لأحد الحزبين الكبيرين، حتى يجد واحد منهما، على الأقل، البوصلة التي تقوده.. اللهم إلا إذا تبدلت قياداتنا أو تغير أسلوبها أو تراجع الطيب مصطفى!!