أعجب لمن لم يتجاوز نظرهم إلى قضية الطفل السوداني الشمالي (موسيس) أرنبة أنوفهم وهم يُلبسونها ثوباً عاطفياً خالياً من أبعادها الحضارية والعَقَديّة!! أعجب لمن ينسى في لحظة غفلة هُوية موسيس الحقيقية ويفكر بمنطق العمر الفاني بعيداً عن منطق الآجل اللا متناهي.. أعجب لمن يظنُّ أن الحياة تنتهي بنهاية العمر الأرضي وينسى أنها تمتد إلى ما بعد الموت بل إلى خلود أبدي.. أعجب لمن يفكر في جنسية موسيس الوطنية الفانية وينسى جنسيته الربانية الأبدية في دار الخلود حيث لا خيار سوى الجنة أو النار.. إنهم يفكرون في حق (أم) موسيس البديلة التي ربّته منذ أن كان عمرُه أياماً معدودات إلى أن بلغ من العمر سبع سنوات وينسَون حقَّ الله تعالى في أن نستدرك خطيئتنا نحن المسلمين حين تركناه يلوذ بحضن امرأة ليست مسلمة صارت اليوم أجنبية... أغدقت عليه من حنانها لكنها نصّرَته وهكذا يكون حال المولود يولد مسلماً على الفطرة فينصِّره أبواه أو يهوِّدانه أو يمجِّسانه كما قال الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم. والله إني لمتعاطف مع تلك (الأم) النبيلة التي امتلكت قلباً كبيراً جعلها تحتضن ذلك الطفل البريء بينما كنا نحن المسلمين بالملايين ذاهلين غافلين عنه وهو ينشأ في رعاية أسرة غير مسلمة ولو فعلها أيٌّ منا وتبنّاه لما تفجّرت هذه القضية الاجتماعية التي شغلت المجتمع خلال الأيام الماضية لكن تعاطفي يصبح في نهاية الأمر مجرد نزوة عابرة لا تختلف عن عاطفة من يحنُّ إلى رجله ويرفض أن تُبتر جرّاء غرغرينة أو ورم سرطاني وهي ذات العاطفة التي جعلت قبيلة النعام تبكي على فقد السودان جزءاً من أرض المليون ميل مربع التي لطالما اُفتُتن بها الشعراء وغنّى لها المغنون ناسين أن عافية الجسد أهم من بقائه معلولاً بالأسقام والأورام الخبيثة!! أعود للطفل موسيس فأقول إنه من الطبيعي أن تنبري مساجد الجمعة لهذا الأمر وكم أعجبني أن عدداً من كبار العلماء تصدَّوا للقضية من بُعدها العَقَدي مستنكرين حكم المحكمة ومنهم على سبيل المثال بروف محمد عثمان صالح الأمين العام لهيئة علماء السودان وشيخ أبو زيد محمد حمزة ود. عصام البشير ود. إبراهيم الكاروري ود. عبد الله محمد سيد أحمد من جامع الخرطوم الكبير ود. محمد الأمين إسماعيل ود. إسماعيل الحكيم وغيرهم كثير ولم أستغرب كذلك أن يتعرض لها بعض الكُتاب والصحفيين بصورة ساذجة ناسين البُعد العَقَدي للقضية ومتجاهلين الحقيقة التي تناساها في رأيي القاضي الذي أصدر الحكم مستنداً إلى مرجعية لم تراعِ مقاصد الشريعة وأهدافها المتمثلة في حفظ أهم المطلوبات وهل أهم من مقصد الدين الذي أعتقد أن الأمة تأثم إن هي فرَّطت فيه وفتنت هذا الطفل عن دينه بتركه لتلك المرأة التي ستأخذه إلى دار كفر يُعادى فيها الإسلامُ وتُنتهك فيها شرائعُه ويعلن رئيسُها سلفا كير أنه سيشنُّ الحربَ عليه ويحُول دون انتشاره؟! ذلك ما دفع علماء الأمة لتوجيه النقد لحكم المحكمة التي لا أدري ما إذا كانت قد اعتمدت الشريعة الإسلامية أم شريعة أخرى في التعامل مع دين الطفل سيما وأن الإسلام أبطل التبني ولا يوجد ما يجعل المحكمة تعتبر الطفل متنازعاً بين أمه وأبيه كون تلك المرأة ليست أمه الحقيقية الأمر الذي يجعل من منحها له أو أيلولته لها أمراً لا حجة تدعمه حتى لو كانت مقيمة أو ستقيم في السودان بالنظر إلى أنها ليست مسلمة وينبغي للمحكمة وهي تحتكم إلى الشريعة أن تُولي قضية دين الطفل الاهتمام الأول قبل النظر في جنسيته فالدين يعلو على الوطن والحفاظ عليه يعلو على كل انتماء آخر. أمرٌ آخر وهو أن المحكمة كان ينبغي أن تنظر إلى البيئة التي سينتقل إليها ذلك الطفل فإذا كان العداء للشماليين في الجنوب بسبب سحنتهم هو السائد اليوم فمن باب أولى أن نتحسّب لما سيعانيه ذلك الطفل في الجنوب خلال فترة الدراسة وبعدها وكلنا يعلم أن الشماليين دون غيرهم من الأفارقة يعانون من تفرقة عنصرية رهيبة وكثيراً ما ذكرنا كيف أن عرمان الذي أفنى عمره في خدمة الجنوب عانى من التمييز على أساس العِرق وقُطعت أذنه عضاً خلال فترة (النضال) لصالح الحركة الشعبية ضد أهله وعشيرته!! يبدو لي أن النظر إلى هذه القضية يختلف باختلاف المرجعية التي يصدر بها الحكم فالمسلم ينبغي أن يعطي الأولوية القصوى لدين الطفل أما العلمانيون فإنهم يُولون الجوانب العاطفية وغيرها اهتماماً يفوق الدين. صحيح أننا تطرقنا إلى جانب واحد من القضية التي ينبغي أن نتناول جوانبها الأخرى خاصة الجانب الاجتماعي الذي يُفترض أن يكون محل نظر أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني وما من جهة أولى بهذا الأمر من مساجد الجمعة التي ينبغي أن تتصدَّى للمشكلة الأخلاقية التي أفرزت هذه الظاهرة وهذه القضية.