كل الناس كانوا يعتقدون ان وزارة المالية والاقتصاد وزارة ضخمة جدًا بسيادتها على المال العام بكل اوجهه ومصارفه وبيدها الطولى في صناعة السياسات الاقتصادية ولذلك كل ما اعلن تعديل وزاري وجيء بوزير للمالية فإن هذا الوزير يرى فيه الناس انه من أهل الحظوة لأنه المسؤول عن خزائن البلد وحينما وصل علي محمود الوزير الحالي للمالية للوزارة كنا نحسب الأمر كذلك خاصة بعد الايرادات الضخمة التي حصدها السودان من عائدات النفط قبيل انفصال الجنوب وبعد التصريحات الكثيفة لمسؤولين بالدولة بأن البلد معافاة تمامًا وانه ليس هناك ازمة اقتصادية ولن تتأثر بالازمة الاقتصادية العالمية حسبما افادوا .. وبرأي هؤلاء ان انفصال الجنوب ايضًا ليس له اثر اقتصادي على السودان القديم وقد فرحنا وهللنا لسنوات ذهبية قادمة على البلاد بعدما رحل الجنوب وراحوا.. ولكن المفاجأة كانت غير ذلك ولا نود هنا ان نخوض في تفاصيل متعلقة بتبعات انفصال الجنوب غير أن الأهم أن هناك من يحاول مجتهداً وجاداً هذه الأيام في تحميل وزير المالية علي محمود كل تبعات الاختلال والتراجع المستمر في الاقتصاد الامر الذي ادى الى ضعف بائن في الإيرادات ومن ثم فجوة في المصروفات.. علي محمود وشهادة لله حينما جاء الى وزارة المالية لم يعتمد على منهج التطبيب إنما اختار ان يواجه الواقع ويتعامل معه بالجدية المطلوبة حتى ينقذ البلاد من حالة الانهيار الاقتصادي الذي تقدم عليه بخطوات متسارعة وهنا علينا وعلى الجميع ان يوجهوا صوت شكر لهذا الوزير بدلاً من نقده وتجريحه ومحاولة تحميله اوزار وأخطاء واضحة في مسيرة الاقتصاد السوداني شارك فيها جيش جرار من الاقتصاديين السياسيين الذين سبقوه في إدارة الإقتصاد السوداني.. لقد كان علي محمود شجاعاً في موجهة أنصار حزبه أولاً بأخطاء الممارسات الاقتصادية وأول هذه الأخطاء وأهمها على الإطلاق عملية تجنيب الإيرادات وهي ممارسة اقتصادية سيئة ومضرة بحركة الموارد في الدولة وما أفرزته عملية التجنيب هو طغيان بعض المؤسسات الاقتصادية وتماديها في عدم إطاعة الأوامر الصادرة عن وزارة المالية في سعيها لاستعادة ولاياتها على المال العام، وهذا يجعلنا نتساءل أيهما أقوى سلطة الحزب أم سلطة الحكومة، إن كان الذين يهاجمون علي محمود يريدون الإصلاح فعليهم أن يطالبوا بإعادة الأموال المجنبة لوزارة المالية، كما يجب أن يحمد له أنه حينما جاء للوزارة واجه المسؤولين في قمة الدولة بما يجري داخل وزارة المالية بتفاصيل مسكوت عنها كانت السبب في جرّ البلاد لهذا المطب الضيِّق، وبالمعالجات القاسية المنتظر اتخاذها من أجل العبور من هذه البؤرة المظلمة، إذن السياط التي تنهال على جسد الوزير ليل نهار بسبب الإصلاحات الاقتصادية غير مبررة إنما هي محاولة لطمس الحقائق وتشويه الصورة الواضحة للحالة الاقتصادية التي رسمها الوزير ومعاونوه للحكومة وأراد بذات الشجاعة أن يواجه بها الرأي العام، لأن المسؤولية في نهاية المطاف مسؤولية تضامنية في كل القضايا المصيرية التي تخص البلد.. أزمة الاقتصاد السوداني ليست جديدة بدأت منذ أن تأرجح إنتاج القطن والقمح والصمغ العربي في عموم المناطق الزراعية التي اشتهرت بهذه المحاصيل وفي مشروع الجزيرة على وجه التحديد واقتصادنا من اقتصاديات العالم الثالث.. اقتصاديات معروفة بضعف الايرادات وعجز الميزانيات لاعتمادها على القروض والمنح بسبب عدوم وجود بنيات أساسية لتحريك الانتاج، والأزمة الحالية وصلت إليها البلاد بالتدريج بسبب الترهل المستمر في الفصل الأول، وهو ترهل اقتضته ضرورة سياسية «التوسع في الحكم الاتحادي» وضرورة تنمية اجتماعية «المستشفيات والمدارس» مضافاً لذلك عبء الدين الخارجي وفوائده المتعاظمة.. وهذا يؤكد ان الأزمة أزمة متراكمة وموروثة لا يسأل عنها الوزير علي محمود وحده إنما هي مسؤولية دولة ومسؤولية حكومة بأكملها وأيضاً مسؤولية شعب.. وحتى في أيام البترول لم تكن لدينا ميزانية خالية من العجز.. فالسيد الوزير وجد مشكلة كبيرة يسعى لمعالجتها والمعالجة اقتضت تحصيل أموال لدعم الموازنة حتى تفي بأغراضها من إيرادات حقيقية سواء أكانت ضريبية أو جمركية ولا محيد عن هذه الخطوات.. لأن البديل هو الانهيار الكامل في ظل ضعف الموارد وشحها إزاء الاحتياج الواسع والبديل للسياسات هو التضخم الذي لا يوجد أخطر منه على الاقتصاد واذا تراجعنا عن هذه السياسات سنصل بسبب التضخم لحال دول مثل «زمبابوي». أعينوا وزير المالية ولا تستعينوا عليه بألسنة السوء فعلاج الأزمة ليس في من يكون الوزير إنما في القوة التي تنزل السياسات الى ارض الواقع وتتحكم في شأن المال العام وتكون قيمة في تصريفه بعدالة.