تواجه وزارة المالية ظروفاً ضاغطة وأوضاعاً حرجة جراء اختلالات الأوضاع الاقتصادية، وشح الموارد الناجمة عن انفصال الجنوب، ووزير المالية يتحدث يوم الثلاثاء الماضي وقيادات الوزارة ومحافظ المصرف المركزي ومديرو الجمارك والضرائب لمدة (5) ساعات كاملة، من الحادية عشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر، ولم يقنع الوزير الصحافيين بعافية الجسد الاقتصادي، وبعض المسؤولين عن الشأن الاقتصادي في البلاد، مثل مدير عام قوات الجمارك يقول علناً ودون أن يطرف له جفن.. إن نقص الإيرادات سيتم تعويضه (بالبركة)، كأن مدير الجمارك خطيب في مسجد بقرية نائبة، وليس رجل دولة يفترض فيه إحترام نفسه، وتقديم رؤية اقتصادية مقنعة، بدلاً عن الحديث عن ربحية شركات الاتصالات، و(البركة) التي يعتقد مدير الجمارك بأنها (تميمة) يستحضرها شيوخ (مايرنو) في ولاية سنار، ووزير المالية، وقيادات الوزارة والمصرف المركزي، يهدرون خمس ساعات في الحديث المطول، وتخسر الدولة يوم عمل بأكمله، وتتعطل مصالح المواطنين لأن السيد الوزير مع الصحافيين في وزارة التعاون الدولي، التي تتقمص شخصيتها نزعة (ملوكية) وطغيان أرستقراطي، جعل الوزير يخصص لنفسه (أسانسير) خاص كتب عليه (؟؟؟) وأسانسير آخر كتب عليه (G)، أي عام للموظفين وزوار الوزارة، بينما النبلاء والملوك يستخدمون مصعداً خاصاً، حتى لا يصابون بالأمراض ويستنشقون رائحة عرق الغلابة والمسحوقين، إن كان هؤلاء يسمح لهم بالأقتراب من المبنى الفخيم الذي أقيم المؤتمر الصحافي في الطابق العاشر، ووزير المالية يعلن بأن الزيادة في أسعار الوقود (بنزين وجازولين) قادمة لا محالة، وإن المجلس الوطني فقط طلب من وزارة المالية تقديم رؤية متكاملة لمعالجة الآثار الناجمة عن رفع الدعم عن المواد البترولية (بالتدرج)، لطفاً بالشعب الذي سيواجه أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء، يصل فيها التضخم إلى 17%، باعتراف وزير المالية، بينما يعلن د. محمد خير الزبير عن سياسات نقدية، تجعل الدولار الأمريكي لا يتجاوز ال (3) جنيهات، وعلى بعد خطوات من وزارة المالية، ينشط تجار العملة في البحث عن الدولار بمبلغ (4) جنيهات ونصف الجنيه. الرئيس وزيراً للمالية: سألت السيد وزير المالية علي محمود عن ولاية وزارته على المال العام، وهل من سياسات جديدة للقضاء على ظاهرة تجنيب الإيرادات، ومتى يصبح أورنيك (15) مالي الإيصال الوحيد القانوني!!!.. وكم عدد الشركات الحكومية التي تمت تصفيتها في العام الماضي، وعدد الشركات الحكومية التي تعذرت تصفيتها ولماذا؟؟ ولأن الوزير الذي (حاول) في أيامه الأولى بالوزارة وضع يده على الماء الساخن فلدغته عقارب وكادت أن تعصف بوجوده في الوزارة ومراكز القوى، آثر الوزير الرد على الأسئلة على طريقة (سياسة بسمارك الداخلية مقدمة على سياسية بسمارك الخارجية). وحينما جلس الوزير علي محمود أمام الصحافيين، وهمس مدير إعلامه آدم الزبير في أذنه بإصلاح رباط عنقه، كانت الصحف الصادرة في الصباح تنقل تصريحات د. الفاتح عز الدين رئيس لجنة العمل والحسبة بالمجلس الوطني، التي حدد فيها عدد الوزارات التي تجنب إيراداتها البالغة (14) وزارة اتحادية، ولم تتبقَ طبعاً إلا السياحة والعمل، وتنمية الموارد البشرية، ووزارة رئاسة مجلس الوزراء، والصحة، ورئاسة الجمهورية، وبقية الوزارات السعيدة، جميعها تتحصل أموالاً من المواطنين وتبرم اتفاقيات (باطنية) مع وزارة المالية، أو تحصل على تفويض لتحصيل الإيرادات وتوظيفها لمصلحة الوزارة، وتلك هي آفة الاقتصاد السوداني، ومواجعة الحقيقة وأمراضها التي فشل حتى د. عوض أحمد الجاز بشخصيته العسكرية ونفوذه غير المحدود في الدولة في القضاء عليها.. وقبل عام أصدر الرئيس البشير قراراً بتشكيل لجنة برئاسة د. نافع علي نافع لمعالجة أوضاع الوزارات التي (تجنب) إيراداتها، وترفض تطبيق قانون ولاية المالية على المال العام، وآثر وزير المالية الهروب إلى الأمام من سؤال عن مصير تلك اللجنة، وهل نجحت أم فشلت؟ والإجابة الصحيحة إنها فشلت في (إقناع) الوزراء بالكف عن تجنيب الإيرادات المالية، وإلا لما أصبح عدد الوزارات التي تجنب ايراداتها (14) وزارة اتحادية. وإذا فشل د. نافع في القضاء على مراكز القوى التي تحصل المال وتقبض عليه بالنفوذ و(العضلات)، ومن قبل فشل د. عوض الجاز في إرغام الشرطة على استخدام أورنيك (15) المبرئ للذمة في تحصيل رسوم المعاملات، من جوازات سفر ورخص قيادة، وترخيص، وجبايات، ومخالفات مرور، وتسويات، ولم يفلح الآن علي محمود في مجرد الاقتراب من أموال الصناديق الاجتماعية الضخمة، وحينما لوح في البرلمان بالإيماءة فقط بضرورة أن تمتد ولاية المالية لأموال الصناديق الاجتماعية، ثارت تلك الصناديق بطريقتها الخاصة، واتخذت الحرب على الوزير منحى يشئ بمغادرته للموقع سراعاً.. لكن الوزير نأى بنفسه فجأة عن (شعراً ما عندو ليه رقبة)- كما يقول المثل الشعبي- وبات أمر تطويع الوزارات ومراكز القوى عسيراً على الوزراء، ومساعد الرئيس د. نافع علي نافع، الذي يختار نصف وزراء الحكومة ويترك النصف الآخر للرئيس والنائب الأول، وأمام الحكومة خيار وحيد أن تبقى على الوزير علي محمود في موقعه لإدارة الشأن الحسابي، و(تدبير) الفصل الأول والثاني، وأن تسند للرئيس البشير مسؤولية الإشراف المباشر على المالية، وإصدار القرارات الصارمة والنهائية غير القابلة للالتفاف والاستثناء بوضع المالية يدها على أموال عائدات الكهرباء، وعائدات الجوازات، وعائدات رسوم طرق المرور السريع، وعائدات السلطة القضائية، وتنفيذ موجهات قرارات مجلس الوزراء بتصفية الشركات الحكومية والشركات (الرمادية)، التي تقع بين الخاص والعام، وتسليم وزير المالية كل أموال الدولة، بالقضاء على مراكز القوى والنفوذ المالي، وتجفيف الوزارات الإيرادية، حتى تستقيم أوضاع الاقتصاد الوطني، ويكتب الرئيس بنفسه روشتة العلاج لاقتصاد البلاد، الذي بات في وضع بالغ الخطورة، وقد أعلن الاسبوع الماضي عن هجرة (800) أستاذ جامعي للدول العربية، وتخطط دولة الجنوب لاستنزاف العقول الشمالية عبر سياسات إغراء الخبرات الشمالية، والخرطوم غافلة عن إصلاح سفينتها كثيرة الثقوب، وتولي الرئيس لوزارة المالية ليست بدعة في العالم الثالث، فقد تولى من قبل الرئيس جعفر نميري وزارة الدفاع، والداخلية، ووزارة الإعلام والثقافة،، ومشكلة الاقتصاد السوداني الآن مشكلة إدارة وقدرة على إتخاذ القرار، وليست أزمته في السياسات الاقتصادية التي وضع لبنتها آخر وزير مالية، له رؤيا وفكر ثاقب الأستاذ عبد الرحيم حمدي.. ولن نظلم الوزير الحالي علي محمود، ولكنه عين لإدارة وزارة لا سلطان لها على 70% من موارد الدولة، وشحت الموارد وهزلت عائدات النفط وتدهورت الزراعة وارتفعت فاتورة استيراد القمح خلال العام المنصرم إلى (4) مليارات دولار أمريكي، وانخفض إنتاج النفط إلى (115) ألف برميل في اليوم، وأصبح علي محمود في مواجهة صعبة مع الشعب السوداني، وسياسياً مطلوب منه (استرضاء) دارفور بجراحها النازفة، والصرف على حروب اشتعلت بغتة في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وتلوح في الأفق بوادر حروب أخرى، إذا لم تحسن الدولة خطابها وتساوم (خصومها) من السودانيين والدول الخارجية بأوراق كثيرة بيدها. قال علي محمود إن السياسات الاقتصادية والصرف على الزراعة جعل المساحات التي زرعت بالقطن العام الماضي تقفز من 100 ألف فدان إلى 400 ألف فدان هذا العام، لكن وزير المالية لم يحدثنا عن الانتاجية الرأسية لفدان القطن في الجزيرة، مقارنة بفدان القطن في البلدان الآسيوية.. وباعتراف د. عابدين محمد علي مدير شركة الأقطان لا تزال محالج القطن التي أهدرت 400 مليون دولار في النيل الأبيض، عبارة عن بئر معطلة وقصر مشيد، وإنتاجية بحر أبيض من القطن تلتهمها المصانع في شهرين، وبقية العام تظل المصانع مرتعاً للماعز، وظلاً ظليلاً للعمال، وهم يزجون أوقاتهم بلعب الورق و(الضمنة) و(سيجة)، وإهدار المال العام لا يقف عند محالج ربك، التي موَّل تشيدها البنك الإسلامي جدة.. أنظر لمطار مدينة مروي الذي أنفقت عليه الدولة ملايين الدولارات.. والمطار لا يستقبل إلا طائرة وزير الكهرباء والسدود وبعض (المتنفذين) في الدولة، حينما يعاودون مريضاً أو يؤدون واجب عزاء في عزيز حكومة رحل عن دنيانا. التضخم التنفيذي والحرب: كثير من المراقبين، والكُتَّاب، والسياسيين يعتبرون تضخم الجهاز التنفيذي والجيش الجرار من الوزراء ووزراء الدولة والمفوضين والحكومات الولائية، يشكل عبئاً حقيقياً على الاقتصاد.. ولكن رواتب هؤلاء ونفقات الوزير لا تشكل عبئاً يذكر على الخزانة العامة، ولكن المال الحقيقي يتم تبديده في الأثاث والسيارات الفارهة، والعمارات الزجاجية، وتكلفة تشغيل أجهزة التبريد والتكييف، وأجهزة الكمبيوتر التي يتم وضعها في مكاتب الدولة كجزء من زينة المكتب، والأثاث المستورد من بلاد طيرها وشعبها (أعجمي)، هي من يلتهم المال كالنار في الهشيم، عطفاً على أن المال الحقيقي يذهب هدراً، حينما تخوض الدولة حروباً في الأطراف غير مبررة مطلقاً، وقد نشبت الآن في السودان ثلاثة حروب في دارفور، حيث تنفق الدولة المليارات من أجل السلام، وتنفق أضعاف المليارات على حرب تشتعل نيرانها كل يوم، واتفاقية سلام جاءت (بجنرالات) بدون جيوش، وسياسيين دون قواعد، وقدر الدولة أن تصرف على سلام غائب، وحرب حاضرة، وأخرى نشبت في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وحرب أخرى تلوح في الأفق، وبناء دولة الشمال ودولة الجنوب في الوقت الذي يعلن فيه وزير المالية عن عجز في الموازنة العامة، وتضخم يصل إلى 17% دون حساب إنفاق الحروب الثالثة، التي يمكنه إطفاء نيرانها بقليل من الجهد السياسي والتفاهم مع جيران السودان، وخاصة دولة الجنوب التي لا تزال تحتاج إلى الدولة الآمنة، وتسعى للحصول على الذرة والسكر والدقيق والبصل والملح، ولكن حينما تفشل في ذلك تذهب لدولة إسرائيل التي في حال دخولها الجنوب ونشر قواعدها ومحطات تجسسها، فإن ذلك يتطلب انفاقاً أكبر على الأمن الوقائي، وخزانة الدولة تشكو الفقر والعوز، ويهدد الدولة الجوع، بسبب نقص الغذاء، وشح الأمطار، ولكن رغم كل ذلك بدا وزير المالية متفائلاً، ووزع الابتسامات على الصحافيين ليبدو أكثر (ظرفاً)، ومدير الجمارك أكثر تقرباً لله وهو يقرر سد فجوة الإيرادات بالبركة والدعاء الصالح.