أبرمت دولة جنوب السودان قبل أيام عدداً من الاتفاقيات حول البنى التحتية للمياه وتطوير التكنولوجيا مع إسرائيل وهي اتفاقيات تعتبر لدى العديد من المراقبين بمثابة فتح لإسرائيل في المنطقة وربما كانت هي المرة الأولى للدولة العبرية التي تجد فيها فسحة كافية لوضع فمها على مياه النيل في المحابس العليا وفي منطقة مؤثرة إستراتيجياً على المديَين القريب والبعيد، بحيث يُتاح لها فعل ما تشتهي وهي بكامل الاطمئنان ليكون ذلك خير مدخل لها للسيطرة على النيل والتحكم فيه بدرجة ما. الاتفاقية المُبرمة وإن أثارت قلق دول الحوض، إلاّ أنها لم تدفع دولاً مثل مصر لاتخاذ خطوات تقلل من مخاطرها. زعيم الأغلبية البرلمانية في برلمان دولة جنوب السودان «أتيم قرنق» شنَّ هجوماً لاذعاً على ما أسماه تخوُّف الدول العربية من العلاقات الإسرائيلية الجنوبية ومن المشروعات المشتركة للدولتين واعتبر حديث النُخب العربية في هذا الصدد مجرد «تشويه عنصري واستعلاء»! ردود الفعل العربية لم تصل ذروتها بعد، وإن كانت غالب دول المنطقة تتوقع مثل هذه الخطوات بالنظر إلى تاريخ قديم بين الحركات الجنوبية المختلفة وإسرائيل منذ حركة الأنانيا في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم وانتهاءً بالحركة الشعبية الحاكمة حالياً لدولة جنوب السودان. وبالطبع لم يتسنَّ حتى الآن للنخب الجنوبية والقادة السياسيين في دولة جنوب السودان إدراك أبعاد مثل هذه العلاقة المفتوحة على مصراعيها بين الدولة الجنوبية الوليدة وإسرائيل.. الكثير من قادة الحركة الشعبية على وجه الخصوص يستهترون غاية الاستهتار بمخاوف دول المنطقة من هذه العلاقة وهو ما يدفعهم للانغماس أكثر في العلاقة وتوسيع نطاقها. إذا أردنا تشريح مخاطر هذه العلاقة فإن طبيعة هذه العلاقة ترتكز على أمرين خطيرين؛ الأمر الأول أن القادة الجنوبيين لا يدركون لأسباب مختلفة مخاطر هذه العلاقة التي لا تُرى بالعين السياسية المجرّدة.. الأمر عندهم ينحصر فقط فى «حريتهم وحقهم المطلق» هكذا يفهمون الأمر في إقامة علاقات مع مَن يرَون وفق مصالحهم. خطورة هذا الفهم الخاطئ أن إسرائيل من جانبها تستغل هذه اللهفة الجنوبية الممزوجة بعناد في الحصول على أقصى ما تريد بدون سقف واضح، إذ أنها وكلّما طلبت وجدت استجابة بحكم الاندفاع الجنوبي المؤطَّر باعتقاد أنّ الدولة العبرية ومن ثم الولاياتالمتحدة هم خير «معين» لمن يود أن يعيش في أمان! هذا الفهم قاله أكثر من قيادي في الحركة الشعبية وبات يمثل «عقيدة سياسية راسخة» لدى هؤلاء القادة. أما الأمر الثاني، فهو أن العلاقة مع إسرائيل في منطقة تعج بمصالح دولية ومصالح دول المنطقة أمر خطير للغاية ليس فقط لأنَّ إسرائيل لا تعرف سوى مصالحها ولا تراعي أيّة مصالح حتى لأصدقائها، بل حتى لحليفتها واشنطن دعك من جوبا، ولكن لأنّ إسرائيل من الممكن وبغاية البساطة أن تفعل ذات ما فعلته في الأراضي الفسلطينية المحتلة في مطلع القرن العشرين حين بدأت بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ترغيباً وترهيباً وبوسائل خداع مبتكرة، فضلاً عن المقولة اليهودية الخالدة من أنّ دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل. من السهل أن تنجح إسرائيل في ابتلاع الدولة الجنوبية في غضون سنوات قلائل ويومها لن يجد أتيم قرنق من يُلقي عليه باللوم. إن المشروعات الإسرائيلية المتعلقة بالمياه في دولة جنوب السودان هي عمل عدواني صريح موجّه لدول المنطقة؛ فإسرائيل دولة معادية للكل لأنها تنتهج نهج الاستيلاء على أراضي ومواد الغير بالقوة ولا تراعي في ذلك قانوناً دولياً ولا قرارات من مجلس أمن، ولا حتى تهديد بالحرب. إن من المفروغ منه أن مخاطر الوجود الإسرائيلي في عمق منابع النيل ومساقطه أياً كانت طبيعته والغلاف الذي يُغلَّف به هو أمر يمثل تهديداً للأمن القومي العربي؛ ولسوف تأخذ جوبا وقتاً طويلاً أكثر من اللازم لإدراك مأزقها الإستراتيجي حين يغيب الاستثمار العربي وحين يحيط سوار الربيع العربي بمعصم الدولة العبرية وتابعيها على مدى السنوات القليلة المقبلة.