«فرغلية ذو الكفل».. أو فرغلية الكفل كما يناديها جيرانها التشاديون في انجمينا.. سيدة في مطلع الثمانينيات من عمرها... قد تظن ايها القاري أنها تشادية.. لكنها سودانية مشلخة «مية وحداشر» وهي سليلة قبيلة الدناقلة التي اعتادت الهجرة والترحال. سعينا للقائها بمنزلها، وذلك لأن السيدة فرغلية تمثل تاريخاً عريضاً للعلاقات الشعبية بين السودان وتشاد.. واذا كان الراحل بابكر بدري يعتبر الأب الروحي لتعليم البنات في السودان، فإن فرغلية تعتبر رائدة التعليم العربي في إنجمينا، فهي أنشأت اول مدرسة عربية في تشاد في اواخر خمسينيات القرن الماضي عندما لم تفكر انجمينا في طرق ابواب اللغة العربية. إنجمينا: هاشم عبد الفتاح وتمثل حياة السيدة فرغلية محطات غريبة بالتأكيد واراد لها المولى ان تلعب دوراً بعينه. ولدت فرغلية في «حي القبة» بالابيض في عام 1930م، ودرست المرحلة الأولية في مدرسة بنات القبة بالابيض، ثم معهد المعلمات بأم درمان، حيث تخرجت فيه عام 1945م، ورغم بعد المسافة إلا ان فرغلية لديها القدرة الجيدة على تذكر بنات دفعتها، فاطمة توفيق، خيرمنو المهدي، عمائم آدم، فاطمة بقادي، نفيسة عبد الله ونفيسة المليك وأم سلمة هارون. وتقول فرغلية إن لها خالاً هاجر باكراً للعمل بالتجارة في منطقة الطينة الحدودية لم تره منذ صغرها. وبالطبع خلق هذا الخال علاقات جيدة مع مواطني الطينة من السودانيين والتشاديين.. مما جعل أحد اصدقائه التشاديين يطلب منه اختيار احدى قريباته في السودان لتزويجها له. لكن الخال طال به العهد من اسرته في الابيض ولا يعرف من هن في سن الزواج من أسرته، فكلهن ولدن بعد هجرته. وتقول فرغلية إن صديق خالها هذا حضر الى الابيض ومعه رسالة من خالها تشرح لأسرته أن حامل الرسالة صديق عزيز عليه، وطلب من اسرته الموافقة على تزويجه من التي يختارها من بنات الاسرة. زوج غريب وغضب شباب الحيّ!! فرغلية ورغم انها الآن في الثمانينيات من عمرها إلا أن بها لمسة ولمحة واضحة من الجمال.. ضحكت فرغلية وهي تتذكر الاحداث التي صاحبت مراسم زواجها. قالت ان شباب الحيّ رفضوا بشدة ان تتزوج حسناء الحيّ من رجل غريب بل ليس سودانياً...«العيال كتبوا الجوابات وزقلوها في لب البيت» اي رموها في داخل حوش البيت.. هكذا تحدثت السيدة فرغلية بلهجة اهل تشاد ... وذلك يعني «ان الشباب كانوا يرسلون كثيراً من الخطابات الى اهلها يعبرون فيها عن رفضهم لهذا الزواج»... لكن شاءت الأقدار أن يتم الزواج. ويأخذها زوجها التشادي للاستقرار في مدينة الطينة التشادية مطلع خمسينيات القرن الماضي، حيث أنجبت مولودها الأول هناك قبل أن تنتقل الأسرة الى العاصمة التشادية انجمينا. وفي تشاد حضرت لزيارتها اختها الصغرى «حياة»، وتشاء الظروف أيضا ان يراها حاج أحمد غلام الله، وهو اول رئيس تشادي، حيث طلب الزواج منها وتم ذلك. ولم تطب الحياة لبطلة قصتنا السيدة فرغلية في انجمينا، ففضلاً عن الغربة عانت فرغلية من شغفها بممارسة التعليم. لكن شقيقتها حياة عرضت عليها إنشاء مدرسة لتعليم المنهج العربي، وقد كان، ففي عام 1957م افتتحت فرغلية بمساعدة اختها الراحلة «حياة» مدرستها المكونة من ثلاثة فصول وضمت اربعين طالباً تتراوح اعمارهم بين السادسة والعاشرة. وهنا يتحدث لنا احد خريجي مدرستها واسمه حسن حلواني، وهو سوداني وامه تشادية من عرب إقليم شاري وابوه من مدينة رفاعة. ويقول حلواني إن فرغلية كانت تطعمهم وتدرسهم وتهتم بنظافتهم، بل «كانت تقطعنا الخور ولا تتركنا إلا بعد أن تتأكد من سلامتنا». والغريب في الأمر أن السيدة فرغلية كانت تقوم بدور مدير المدرسة والمعلمين، وكانت المدرسة اشبه بمسرح «الرجل الواحد»، ثم استعانت ببعض حفظة القرآن المحليين لمساعدتها في تدريس الفصول الصغرى، فيما انشغلت هي بتدريس الفصول الكبرى «كل المواد». وتتذكر السيدة فرغلية ذلك الزمان وتقول إن أحد اللبنانيين ساعدها بتوفير كتب المنهج اللبناني... وشهدت المدرسة إقبالاً كبيراً خاصة من السودانيين، الشيء الذي جعلها تدخل في حرج بسبب عدم قدرتها على استيعاب كل الطلاب. ولم تكن فرغلية تسعى للكسب المالي من انشاء المدرسة، بل كان همها الأول أداء رسالة حياتها في تعليم الاجيال الجديدة وتوصيل العلوم التي تعلمتها في معهد ام درمان لتدريب المعلمات. لذلك عندما افتتح الرئيس الراحل المشير جعفر نميري مدرسته عام 1971م، سارعت فرغلية إلى تحويل جميع طلابها للمدرسة الجديدة... ولسان حالها يقول: «يا أولادي كان همي تعليم الوليدات ديل.. وما اخذت اي قرش من المدرسة الجديدة»... وحالياً تحمل المدرسة اسم مدرسة الصداقة السودانية التشادية. من يصدق أن فرغلية وبعد هذا العمر الطويل في تشاد مازالت تذكر كل شوارع مدينة الأبيض.. «يا اولادي أنا كل ما أتذكر الأبيض النوم يفر من عيوني». تركنا السيدة فرغلية تعود بذاكرتها للأبيض... وتحدثت عن كل أحياء المدينة في ذلك الزمان وشخوصها.. محمد عوض الكريم القرشي وآخرين... وقالت إنها عادت الى الابيض اول مرة بعد زواجها بمناسبة وفاة خالتها.. وتقول ان الجميع لم يعرفها.. لكن عندما ذكرتهم بنفسها أخذوها في الاحضان ورجعوا بها الى سنين خلت لكنها باقية في الوجدان. السيدة فرغلية مازالت تحتفظ بالجواز السوداني الأول... وجنسيتها ذات اللون الازرق. وبقي أن نقول إن أسرة فرغلية أصبحت أسرة دولية.. لها ثلاث بنات وولد يعيش الآن في باريس بعد أن أكمل تعليمه هناك.. فيما تعمل إحدى شقيقاته في الخطوط الفرنسية والثانية متزوجة من مصري أمه تشادية.