إذا كان من المعتاد أن تتحدَّث الأنباء عن مغادرة الساسة وقادة الأحزاب لبلدانهم للمشاركة في مناسبات سياسية خارجية أو غير ذلك من الأسباب الخاصة، فإن نقيض هذا الواقع يكاد يصدق في حق مولانا محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، بحيث تصبح عودته للبلاد هي الخبر الذي تفرد له الصحف السيارة والإلكترونية مواقع مميَّزة في صدارتها، فالزعيم الاتحادي والختمي لعله صاحب الرقم القياسي في أطول هجرة سياسية عن البلاد والأكثر إقامة بالخارج مقارنة بنظرائه في الأمة القومي والشيوعي السوداني ولاحقًا المؤتمر الشعبي، إبان قيام ثورة الإنقاذ (1989م)، كما أن عودته غالبًا ما تكون مقترنة بحدث ما، مما يعزز فرضية الارتباط بالإقامة بالخارج أكثر من الوطن، وها هي أنباء الخميس الماضي تحدث عن عودة الميرغني بمناسبة حلول الذكرى ال (44) للسيد علي الميرغني والرابعة لشقيقه أحمد الميرغني، ومن قبل فإن عودته الشهيرة في الخامس من نوفمبر (2008م) التي يمكن إدراجها في خانة الاضطرار وليس الاختيار؛ لأنها جاءت بدواعٍ أسرية حيث كان مرافقًا لجثمان شقيقه ونائبه في رئاسة الحزب أحمد الميرغني، الذي توفي في الإسكندرية المصرية في الثاني من الشهر نفسه، وذلك بالرغم من توقيع اتفاق مع حكومة المؤتمر الوطني ضمن منظومة التجمع الوطني الديمقراطي اتفاق القاهرة 2005م الذي بموجبه شاركت أحزاب التجمع في حكومة الفترة الانتقالية التي أسست لها اتفاق نيفاشا، ولما كانت العودة أو الزيارة حدثًا مفاجئًا وغير متوقع ربما للميرغني نفسه، فقد دار الجدل آنذاك حول ما إذا كان الميرغني سيبقى أم سيغادر، هشام كحلاوي صرح ل (الشرق الأوسط) آنذاك بأن الميرغني سيعود إلى مقر إقامته بالقاهرة أو المدينةالمنورة بعد انتهاء مراسم العزاء، وفي المقابل ذهب الناطق الرسمي للحزب حاتم السر إلى أن الأمر متروك للميرغني نفسه، ومما تجدر الإشارة إليه أن الوجود شبه الدائم للميرغني في مصر أو السعودية نتج عنه أن معظم قرارات الحزب المفصلية تتخذ في الخارج، ومن ذلك أن تصريح الميرغني الشهير الذي نقله عنه الأمين العام للمؤتمر الشعبي د. حسن عبد الله الترابي بأن حزبه لن يشارك في الحكومة العريضة التي كان يبشر بها المؤتمر الوطني آنذاك وإن تراجع عنه لاحقًا، كان بالقاهرة عندما زاره الترابي في منزله في يوليو (2011م)، والتراجع نفسه جرت مراسمه في جدة بالمملكة السعودية عندما تم الاتفاق بين الميرغني وموفد الوطني إليه إبراهيم أحمد عمر في أواخر نوفمبر (2011م)، وأخبر عنه الحزب في بيان صادر عنه بأن مضمونه تشكيل لجان مشتركة لدراسة تعديلات دستورية وحل قضية دارفور وما إلى ذلك، ليفضي الاتفاق في الآخر إلى انضمام الاتحادي لسفينة الحكومة العريضة، ولما كان الميرغني قد غادر البلاد قبيل إنفاذ عملية استفتاء الجنوب بحوالى ثلاثة أشهر فإنه برَّر هذا الغياب عقب عودته للبلاد في مناسبة زواج نجله عبد الله المحجوب على كريمة عمه أحمد الميرغني، سبتمبر 2011م بعدم رغبته في حضور انفصال الجنوب في 9 يوليو، عقب إعلان نتيجة استفتاء يناير التي رجحت كفة الانفصال بأغلبية ساحقة، إذن بشأن أسفار الميرغني وما إذا كان لها تأثير على أداء الحزب ومن قبل هل هي تبدو في سياق طبيعي لنشاط الأحزاب السياسية، جاءت ردود القيادي في الحزب د. علي السيد الذي نفى ل (الإنتباهة) أن يكون ثمة تأثير على الحزب جراء أسفار الميرغني، على العكس فقد ذهب إلى أن أسفاره تتعلق بنشاط الحزب بالخارج، لتوضيح رؤية الحزب وقتما لزم ذلك، حيث يتأتى لمولانا مقابلة شخصيات سياسية على المستوى الإقليمي والدولي دون غيره من قيادات الحزب، وفي مقارنته بكل من الصادق المهدي والترابي قال إن أسفار الاثنين كثيرة هي الأخرى، ويكمن الفرق في أن الميرغني يمكث بالخارج أكثر منهما، فهو عندما يغادر لمصر أو السعودية ينطلق في زيارات أخرى في المملكة المتحدة والولايات المتحدةالأمريكية، كما أن مغادرته وعودته أي الميرغني يصحبها اهتمام إعلامي ملحوظ، وبالإشارة إلى أن بعض قيادات الحزب قصرت أسفار الميرغني باهتمامه بإدارة أملاكه في الخارج، نفى ذلك بقوله إن أملاكه بالخارج ليست بهذا الحجم، وأوضح أن له بعض العقارات في السعودية ولكن ليس هو المسؤول عن إدارتها. على كلٍ يبقى أن اعتكاف الميرغني الطويل بالخارج وثق من عري علاقاته ببعض الدول كالجمهورية المصرية التي عقد فيها الحزب مؤتمره العام الاستثنائي في «2004م» الذي عرف بمؤتمر المرجعيات، حتى إنه ترددَّ وقتها أن الطائرات المصرية هي التي حملت عضوية الحزب من السودان إلى مصر، كما تكفلت بتمويل المؤتمر، بيد أن انقلاب الخارطة السياسية بين يدي الربيع العربي يدفع للتساؤل عما إذا كان لبقاء الميرغني في الخارج عنصر الفائدة الذي توفر بالأمس أم لا؟!.