احتضنت العاصمة الكونغولية كنشاسا في بدايات الأسبوع المنصرم القمة الرابعة عشرة لقادة ورؤساء حكومات الدول الأعضاء في منظمة الفرانكفونية العالمية وهي الدول الناطقة بالفرنسية جزئيًا أو كليًا ، وقد استمرت أعمال القمة ليومين متتالين حيث انتهت يوم الأحد الماضي «باعلان كنشاسا» الذي حوى ستين بندًا يدور معظمها في الفلك الإفريقي. فقد أكدت توصيات القمة على الدعم «الكامل»لافريقيا في كافة المجالات، بل وشدد البيان الختامي علي ان افريقيا هي «قطب» النمو الجديد وتمثل مستقبل الفرانكفونية في العالم. وبحسب تقديرات المنظمة فإنه باكتمال النصف الأول من هذا القرن فان الأفارقة سيشكلون تحو خمسة وثمانون بالمائة من جملة سبعمائة مليون شخص يستخدمون كليا او جزئيا اللغة الفرنسية في العالم. وهي حقيقة يؤكدها الوجود الكثيف لإفريقيا الآن داخل أروقة المؤتمر، فالمراقب يجد أن أكثر من نصف حضور المؤتمر من الرؤساء _ والذين يمثلون خمسة وسبعين دولة فرانكفونية _ هم من القارة السمراء. تعمل المنظمة لصالح ترويج اللغة الفرنسية وتنشط عبرها في مستويات عديدة سياسية واقتصادية وقانونية بحيث أصبحت في السنوات القليلة الماضية تمثل حضورًا لافتًا في عدد من القضايا العالمية خاصة فيما يتعلق بقضايا مناطق الشمال والغرب الإفريقي والتي كانت حتى وقت قريب مناطق نفوذ فرنسي تحت ظلال الشرعية الدولية لسايكس بيكو. وامتد الاهتمام الفرنسي بالقارة حتى بعد خروج القوات الفرنسية في الستينيات من جميع المناطق التي احتلتها في بدايات القرن الماضي في أفريقيا، واستمر هذا الوجود حضورًا ثقافيًا أحاط بهذه الدول كغلالة حريرية رقيقة نسيجها معطيات الحضارة الفرنسية بكل ما تحمله، بحيث قادت لاستمرار الاستعمار ثقافيًا والذي القى بظلاله على كل أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وكانت اللغة هي العامل القوي الذي أدى لتجذير معطيات هذه الثقافة في الواقع اليومي الإفريقي، ففرنسا التي خرجت من الباب قد عادت كأقوى ما يكون من الشباك، بعد أن تركت خلفها ارثها الحضاري من اللغة في كل البلاد التي كانت تحت سيطرتها مشيدة بذلك الأساس لاستعمار بديل أخطر بكثير من سابقه. فاللغة وكما أدركت ذلك غالبية الدول الفرانكفونية تمثل العامل الأكثر تأثيرًا بكثير من كل روابط الجغرافيا والتاريخ، وارتبط الاستعمار الثقافي في كل حقبه باللغة ذلك لأنها تعبر عن هوية الأمم وهي الناقل لحضارتها والداعمة لها بل وهي التي تحافظ عليها وتمدها بالحياة. ولهذا فقد ارتبط انشاء المنظمة الفرانكفونية كآلية استعمارية مباشرة بعد انسحاب فرنسا عسكريًا من مستعمراتها في القارة ووجد ذلك دعمًا قويًا من الأنظمة التي ارتبطت مصالحها بالوجود الفرنسي فتبنَّت هذه الأنظمة الفكرة الوليدة للمنظمة ومهَّدت لقيام مؤتمر وزراء التربية والتعليم في فرنسا وإفريقيا في نفس العام الذي خرجت فيه القوات الفرنسية من القارة وكان هو البذرة التي طرحت ثمرتها لاحقًا، حيث تبلور فيه مفهوم الفرانكفونية نظرية ومنهجًا. ومن ثم ومنذ ذياك التاريخ توالت المؤتمرات الممنهجة لتأسيس الفرانكفونية حتى تم ذلك فعليًا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي بانعقاد المؤتمر الأول للفرانكفونية في باريس. لقد شكلت المنظمة واقعًا جديدًا في القارة أدي لإحداث شروخ ما تزال تتسع بين واقع شعوبها الديموغرافي بكل ثقافاته المتباينة وبين «حلم» تحاول تجسيده ثقافة وافدة تتجذر يومًا وراء الآخر في تربة خصبة تظل نهمة لكل جديد. لقد ظلت الفرانكفونية تلعب على أوتار حساسة لدى الشعوب الإفريقية التي تفتقر إلى الكثير، فاستغلت حاجتها إلى الحرية والعدالة والديمقراطية بأكثر من حاجتها الى الخبز والماء النظيف وقدمت لها إرثها الحضاري كبديل يدعي الحداثة والديمقراطية في محاولة شائهة لإثبات أن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية هي قيم فرنسية «فرانكفونية» خالصة مستندة في ذلك إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنّاه الثوار الفرنسيون. وهو ما أكده الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» الذي شارك في أعمال القمة الأخيرة مؤمنًا على أهميتها الكبرى في السياسة الفرنسية حيث أكد في خطابه الذي القاه في القمة أن التحدث بالفرنسية يعني التحدث عن حقوق الإنسان لأن «هذه الحقوق كُتبت باللغة الفرنسية»!! وهو تجاوز خطير لمعطيات التاريخ والواقع، فحقوق الإنسان «والحيوان» وأبجديات الحرية والعدالة الاجتماعية والشورى والديمقراطية قد أرساها الإسلام قبل أن تعرفها أوربا التي كانت غارقة حتى الثمالة في ظلام الجهل والعبودية وعهود الإقطاع. لقد ظلت الفرانكفونية طيلة الثمانين عامًا الماضية تعمل على تجفيف الإرث الحضاري الإسلامي والعربي في الدول الإفريقية العربية والإسلامية في محاولة لا تمل لتصفية هذا الإرث تمامًا، وهو ما نجحت فيه إلى حد ما في بعض هذه الدول للأسف. وتجيء هذه القمة الآن في ظل ظروف خطيرة تمر بها القارة تتداخل فيها الصراعات السياسية والتحركات الانفصالية مقترنة بالأطماع الصليبية إضافة الى تصنيفات النظام العالمي «الذي لم يعد جديدًا» والتي جعلت بعض المناطق في القارة موسومة بأنها بؤر للإرهاب العالمي، هذا إضافة الى منعرجات ما بعد الربيع العربي والتي لم تستوِ دروبها بعد، مما يزيد من حدة التنافس بين الكثير من القوى الدولية في محاولتها لاحتواء المتغيِّر الجديد في المنطقة.