شرف عظيم للمرء أن يكتب عن جهاز مهم وحيوي وفعّال مثل التلفزيون الوطني القومي السوداني، وإن زاد أمر إعجابك واهتمامك وافتخارك قل القناة الطاهرة السودانية، وبعدها أنت لا تلام ولا تصنف أنك تصدر عن عاطفة وطنية متجردة من العقل والحكمة إن أنت تماديت تعمداً أن تصف قناة السودان بالطاهرة، ذلك لأنك سوف تجد مجموعة من أشياء واقعية وصور حيَّة ماثلة تعضِّد ما نحوت إليه من وصف وتحيُّز وانتقاء، وعندها لا تجد في نفسك حرجاً بعدها أن تباهي وتفاخر.. ولكن يبقى في النفس شيء من حتى.. حتى تكتمل الصورة، ويصدق الرائد أهله، ويبلغ الحادي محله وتنبت بين فكيه أضراس العقل والحكمة، فتُضرب له قبة من جلد أحمر في عالم الاتصال والإعلام المحلي والإقليمي والدولي، كما ضُربت للنابغة في عكاظ في سوق الأدب والنقد.. تجدني مختاراً عن طواعية ورضى أسابق ذاتي لأهنئ وأحييّ الرعيل الأول من الأجداد والآباء في قبيلة الاتصال الذين مهروا بجهودهم الثرة المتواصلة مسيرة الإبداع والتفاني في تطوير الجهاز القومي المشاهَد «تلفزيون السودان» ونحيي الأجيال التي تواصلت وتلاحقت وتزاملت حتى صنعت خمسين عاماً من الإنجاز والخدمة الطويلة نأمل ونتطلع أن تبلغ درجة الامتياز. التهنئة لأسرة الجهاز الوطني المشاهد «قناة السودان الفضائية» الأمة الطاهرة من أعلى هرمها الإداري والفني والتخطيطي إلى أدنى هرمها وبينهما المنفذون والباحثون والمنسقون بعيدهم الذهبي الخمسين ومزيداً بإذن الله من التطور والترقي والمواكبة وفق منهج هُويتنا وأصالتنا. أنت لا تتردد طرفة عين أو قبضة يد وبسطها إن سُئلت أي شعار أجمل وأعظم يزين جيد وجبين قنوات الدنيا الفضائية بأسرها أن تقول بكل صدقٍ وعزةٍ وسرعة بديهة وثقة، شعار تلفزيون السودان إنه «لا إله إلاّ الله» هي العروة الوثقى، هي كلمة التوحيد، هي خير كلمة قيلت منذ طلعت أول شمس على الكون، وتظل خير كلمة حتى مغيب آخر شمس لهذا الكون، وقبلهما وبعدهما. يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام «خير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلا الله» ويقول «من قال لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه دخل الجنة» فكلمة الإخلاص العظيمة هذه هي اليوم الشعار الذي يميِّز قناة السودان الفضائية الأم، ونسأل الله العظيم أن يثيب العالم النحات الموحد الراحل بروف أحمد عبدالعال الذي قام بتصميم هذا الشعار الأعظم المستوحى من أصل هُوية الأمة التي يريد الله تعالى لها أن تكون أمة ربانية.. أمة وسطية..أمة حنيفية.. أمة خالدة ذات رسالة دعوية عالمية شاملة.. ولا أدري بعد هل تلفزيون التوحيد القومي كرّم مصمِّم هذا الشعار من خلال احتفاله «باليوبيل الذهبي» أم لم يفعل؟ هذا الشعار يعرض أمانة ثقيلة على عنق جهازنا الوطني المشاهَد «تلفزيون السّودان» عن أهمية أن يدري ما مضمون الرسالة الثقافية والحضارية والدعوية التي ينبغي أن يقوم بها؟ وما محتوى هذه الرسالة وأهدافها ومبادئها الكلية والجزئية الفرعية؟ وكيف تُؤصل وتُصنع وتُوجه نحو جماعة المتلقين من مصدرها.. «إياه».. وما هي أفضل الوسائل وانجعها في حمل وتوصيل هذه الرسالة..؟ ومتى وكيف، وأين، ولماذا؟ إن خمسين عامًا مضين من عمر هذا الجهاز الحيوي الذي يمثل لسان الشعب السوداني هو وقرينته الإذاعة السودانية التي سبقته نشأة وانطلاقة، وما ترّدم في مكتبته من بحوث وتجارب وخبرات كافية أن تحمله على ساقين من فولاذ خالص، ليحلق بهما بين كبار الدنيا في عصر طُويت فيه المسافات، وقُربت الصور، وتدانت الأصوات التي كانت تتنادى فصارت تتناجى، وفُتحت أقطار الفضاء، وهجمت العولمة على كل ذي خصوصية حضارية، وصار الناس على دين إعلامهم أو كادوا!! إن مهام تلفزيون السودان نقل رسالة مؤصلة ومعبرة عن ثقافة أهل السودان وهُويتهم وأعرافهم وميراثهم الأدبي والفني والحضاري إلى آفاق العالم الآخر، واتاحة حرية الرأي من خلاله لأبناء السودان جميعاً لتحقيق الترابط والاندماج والعدالة الاجتماعية لبناء مشروع وحدة وطنية متجانسة راسخة، وايصال صورة السودان المثلى إلى محيطه الإقليمي والدولي وتسويق إنتاج أهل السودان الثقافي والفكري والحضاري، والقيام بدور إرشادي وتعليمي لتحصين الوحدة الوطنية، وبناء السلام والتعايش والتواصل والدفاع عن الأمن القومي من خلال التصدي لحروب الإعلام والاتصال الجارفة، وإشباع حاجة المواطن محلياً من الأخبار والمعلومات العلمية والثقافية والتربوية والترفيهية، ونقل الأحداث وتوجيه الأخلاق والسلوك العام، وترسيخ الخريطة الجغرافية الثقافية والديمغرافية لأجزاء البلاد عبر الأفلام الوثائقية، والبرامج المفتوحة المتجولة، ورسم صورة حية وجاذبة للسياحة والإعلان الصحفي والترويج والاستثمار.. هنالك برامج بقناة السودان استطاعت بقوة فكرتها أن تنال رضى ومتابعة المشاهد مثل برنامج «أسماء في حياتنا» الذي يقدمه الأستاذ عمر الجزلي، وبرنامج «صحتك» الذي يقدمه البروفسير مأمون حميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم وهو برنامج إرشادي وتعليمي ناجح بكل المقاييس، وهذان البرنامجان جديران بالاستمرار، إضافة لفترة مراسلين التي يمكن أن تقدم أروع لوحة عن السودان من خلال الولايات لو عُمِّمت الفترة وزيدت فترة بثها ولم تُقصر فقط على نشرة الأخبار، وذلك لوجود مراسلين بكفاءة إعلامية وأدبية ممتازة مثل الاعيسر وعاطف بشير وكمال سويكت وعمر مراسل جنوب دارفور وقبونة والهادي إسماعيل وغيرهم.. غير أن قناة السودان الطاهرة بحاجة إلى جهود مضنية في اتجاهين اتجاه تقوم به الدولة لتوفير الدعم اللازم ودونكم نجاح قناة الجزيرة القطرية، واتجاه آخر يتعلق بتأهيل فريق البرامج والحوارات وقراءة الأخبار لبلوغ الأداء اللغوي والنحوي الكافي والثقافة الواسعة وقوة البناء النفسي والشخصي وتوظيف لغة الجسد «إشارة وإيماء» ودونكم أحمد منصور ومحمد كريشان ودكتور فيصل القاسم وغادة عويس وليلى الشايب وأزهار ومريم والشيخلي وغيرهم من فريق الجزيرة المتفوق دائماً. القناة الطاهرة حلوة المظهر ولكنها تفتقر إلى وجود البرامج التأصيلية في مجال الأدب والعلوم، وقلة البرامج الدعوية وتكرار استضافة شخوص محددة كما يفعل الأستاذ أحمد البلال في برنامج في الواجهة، وبرنامج خطوط عريضة الذي يقدمه دياب، رغم وجود كفاءات إعلامية وسياسية وأكاديمية مقتدرة من خارج مؤسسات الدولة من قوى سياسية معارضة ونخب مستقلة وأكاديميين نجباء محاصرين داخل أسوار الجامعات محرومة الجماهير من عطائهم العلمي.. والتلفزيون السوداني لا يزال رغم قوميته المفترضة يكاد يسخِّر مساحاته فقط لمنسوبي النظام الحاكم والدولة ومن لهم صلة بهم إلاّ قليلاً!! وهذا توجه لا شك فيه قصور نظر وغياب رؤية شاملة نأمل أن تجد دراسة شجاعة عاجلة، حتى يصير التلفزيون السوداني لجميع أبناء السودان وللرأي والرأي الآخر المخالف، ولن يأتي النجاح والتقدم إلاّ من هذا الباب، خاصة بعد إعلان الدولة وإدارة التلفزيون دخول مرحلة البث الرقمي المرتقب. كما أن قناة السودان الفضائية مطلوب منها اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تعمل على رفع قدرات ومهارات منسوبيها الفردية فيما يلي الأداء اللغوي والصوتي والثقافي والمعرفي والعلمي والأسلوبي لمواكبة الاتجاهات الجديدة في الإعلام وفنون الاتصال الجماهيري. إن غلبة الغناء مشتركة في معظم البرامج الترفيهية والحوارية وأثناء الفترات المفتوحة، وهو أمرُ يعكس وجود فجوة وفقر في المادة التي تشغل هذا الحيز، فلا تزال الطاهرة تغني أكثر، كما أن أسئلة الحوار على شاشة الطاهرة لا تزال تقليدية.. كيف تتابع؟ كيف تنظر؟ كيف تقرأ سياقات كذا وكذا؟ هذه رؤية مقاربة ناقدة أكدت الإنجاز ولكنها كشفت أوجه القصور كما يتبدّى لنا.. ونأمل أن نرى قناة بلادنا في قمة القنوات تطوراً وأداء حتى نتحمل جميعاً أمانة الرسالة ونحافظ على أصالة الشعار.