في بقعة مباركة من وسط السودان في ولاية الجزيرة تنتصب خلاوي ود الفادني شامخة كالجبل الأشم، يحفها نور القرآن العظيم الذي ظل يُدرّس ويُعلَّم لقرون طويلة، تقلَّبت فيها الأيام والأحوال من حولها، وبقيت طوداً شامخاً، لم تفلح يد الزمان في تغيير معالمها أو طمس النور المنبعث منها، وما زال القرآن يُدرَّس فيها ويُحفظ بطريقة فريدة تختلف عن كثير من الطرق المتَّبعة في أنحاء العالم الإسلامي. بعد أن هبطنا بسلام في محطة ود الفادني، في شارع مدني الخرطوم، أجلت النظر أبحث عن المكان الذي قصدته من قبلي آلاف القلوب ... رأيت لأول وهلة مئذنة عالية بيضاء على بعد كيلو متر واحد، ثم رأيت بعد ذلك بيوت القرية ومنازلها بوضوح، أسرعنا في السير أنا ورفيقي في السفر وكلانا كان صامتاً، تاركاً لعقله وفؤاده الحديث. لم نحتج لطرق باب منزل خليفة ود الفادني الشيخ محمد بن الخليفة الريح، لأن بابه مفتوح على مصراعيه لا يُغلق، ووجدنا بعد دخولنا مجموعة من الرجال واقفين؛ يتشابهون في الزي والسمت والمظهر ... بادر أحدهم وسلم علينا ودعانا لدخول المَضْيَفة ثم لحق بنا بعد قليل وبادلنا التحية مرة أخرى، لاحظت أنه يرتدي جلباباً من قماش شائع، ويضع على رأسه طاقية، عرَّفته باسمي وأنني أود لقاء الشيخ بأعجل ما تيسر ... فأجابني بتواضع جم وصوت حيي: مرحباً بكم أنا الخليفة. سألته متى تأسست الخلوة؟ فأجاب أن الخلوة تأسست في العام 1050 هجرية على يد الخليفة علي بن فضل الله بن محمد بن خير السيد الفادني جد الفادنية في المنطقة. والشيخ علي الفادني وُلد في قرية قرب مدينة الكاملين اسمها العيدج، ثم انتقل إلى منطقة كدباس بشمال السودان، ثم هاجر لهذه المنطقة وأسس هذه الخلوة، ثم هاجر إليه الناس، وعُرفت المنطقة من بعد باسم ود الفادني. وعن اختيار المكان، قال: عندما أراد الخليفة علي تأسيس خلوته، بحث عن مكان مناسب فلم يجد أفضل من هذا المكان، وذلك لأنه مجمع لمياه أمطار الخريف، وإحدى المحطات التي يستريح عندها الحجيج القادمون من غرب السودان وغرب إفريقيا في طريقهم إلى الحجاز. التُّقابة هي نار الحطب التي اشتد اشتعالها ولها لهب يتصاعد، وتُستخدم كمصابيح يُتلى على ضوئها القرآن، وود الفادني دون خلاوي السودان الأخريات لا توقد فيها نار التُّقابة، وذلك مجانبةً لاعتقاد أهل الخلاوي الخاطئ أن النار إذا خبت، ضاع القرآن وهُجِر. يبدأ اليوم الدراسي في الخلوة في الرابعة صباحاً بحفظ المقرر اليومي، وتحديد مقدار ورد الحفظ اليومي متروك للطالب وهمته وقدرته، فبعضهم يحفظ «ثُمُناً» ويُسمى «لوح» وبعضهم «نصف الثُمُن» ويُسمى «الخَرَّوبَة» وبعضهم أكثر من ذلك، وبعضهم أقل، وتستمر هذه الفترة إلى ما بعد صلاة الفجر حتى السابعة والنصف صباحاً، وتسمى هذه الفترة «الدُّغِيشة». يحفظ الطالب القرآن بود الفادني في مدة زمنية أقلها سنتين وأعلاها أربع سنوات، ومصطلح «حافظ» في الخلوة ليس بالمعنى المتبادر للأذهان، إذ أن الحافظ هنا هو من ختم حفظ القرآن ختمة أولى تستغرق حوالي سنة وشهرين وتُسمى «الشُّقَّة» وهي كلمة دارجة سودانية تعني العبور، ثم يختم مرة ثانية بعد ثمانية أشهر وتسمى «العودة الأولى» بمعنى «الإعادة الأولى»، ثم يختم مرة ثالثة خلال ثلاثة أشهر، ثم يعرض الطالب على شيخه القرآن كله وتُسمى «التصنيف»، ثم يجيزه الشيخ أو يأمره «بعودة أخرى» ولا يستطيع الطالب أن يرفض أو يحتج وذلك لأن حكم الشيخ بعدم حفظه سوف يسري عليه طول حياته حتى ولو عرض القرآن من حفظ على الملأ ! وأهل ود الفادني يفاخرون بأن خلوتهم بجانب الآلاف الذين حفظوا القرآن فيها ضمت رجالاً حفظوا القرآن أو جزء كبير منه في خلوتهم، ويذكرون في هذا الصدد: الشيخ القرشي ود الزين وهو أستاذ الإمام المهدي مؤسس دولة المهدية، والشيخ حمد النيل الشهير بأم درمان، والشيخ القارئ عبد اللطيف العوض رحمه الله والقارئ الشيخ عبد القادر الفادني، والشيخ إبراهيم الكباشي خليفة الكباشي، شمال مدينة الخرطوم بحري، والشيخ العالم الأمين الحاج محمد أحمد الأستاذ بجامعة إفريقيا العالمية. ويذكرون من السياسيين السادة علي عثمان محمد طه وغازي صلاح الدين وحسن مكي محمد والزبير بشير طه، وكمال إمام، والزبير أحمد الحسن.