تعود في الأيام القلائل القادمات الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة السورية التي لا تزال شرارتها متقدة حتى الآن برغم مرور كل هذا الوقت. حيث شهدت مدينة درعا السورية البدايات الأولى لأحداث الثورة التي أشعل فتيلها اعتقال الأمن السوري لخمسة عشر طفلاً وذلك إثر كتابتهم شعارات مناوئة للحكومة على جدران مدرستهم. وذلك في نهايات شهر فبراير من العام قبل الماضي. ونتيجة لتداول القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي الإسفيرية، توالت دعوات الناشطين للخروج في تظاهرات وكان أن خرجت العديد من التظاهرات السلمية التي رفعت شعارات المطالبة بالمزيد من الحريات ووقف الاستبداد والقمع الذي تمارسه السلطات بحق الشعب وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية. وتواصلت هذه التظاهرات حتى كانت صبيحة اليوم الثامن عشر من مارس بداية لأنهار الدماء التي ما فتئت تسيل حتى الآن من قبل الشعب السوري. فقد شهد هذا اليوم سقوط أول شهيدين للثورة رميًا بالرصاص الحي كما شهد ظهور ما اصطلح على تسميته (بالشبيحة) الذين أداروا الكثير من الفوضى لصالح النظام. وكان هذا الحدث هو ما جعل مطالب الثوار تتجه إلى المناداة برحيل النظام وسقوطه في تحول نوعي مختلف تمامًا عما بدأت به التظاهرات. وتلا ذلك استشهاد ما يقرب عن مائة مدني بنهاية الأسبوع الأول من المواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين، ثم تمددت الثورة ووصلت التظاهرات كل المدن والقرى السورية وأصبحت عصية على السيطرة. وبمرور الوقت وتصاعد حدة المواجهات أطلق الجيش عمليات واسعة في أنحاء سوريا في محاولة للسيطرة على الوضع المتأزم، وكنتيجة لذلك سجلت دفاتر الثورة أكثر أيامها دمويةً. وعقب الاحتجاجات العنيفة حاولت السلطات السورية تهدئة الوضع بالعديد من المحاولات التي استهدفت إرضاء الشارع، فلجأت إلى رفع حالة الطوارئ التي استمرت متصلة لقرابة النصف قرن حيث طبقت في العام الثالث والستين من الألفية الماضية تاريخ سيطرة حزب البعث على السلطة في سوريا، كما مُنح الأكراد السوريين الجنسية السورية بعد ممانعة وإهمال لحقوقهم من قبل السلطات السورية استمر لعقود طويلة. وجرت محاولة أخيرة من قبل النظام لاستقطاب تعاطف الشارع مع الإصلاحات السياسية، حيث أُعيد تشكيل الحكومة مع مراعاة إدخال وجوه جديدة قد تعيد ثقة الشارع في النظام وتمتص بعضاً من غضبه وصاحب ذلك العديد من الإجراءات الأخرى التي لم تستطِع مس الحقائق الجوهرية التي يطالب بها الثوار. كما أن كل ذلك لم يستطِع تغيير الصورة السيئة التي رسمها النظام لنفسه باستمراره في إسالة الدماء خاصة أن المطالب الثورية التي رفعها الثوار من بعد ذلك لم تعد تحتمل وجود النظام مهما تغيرت بعض الوجوه. وأدى ذلك في نهاية الأمر إلى انشقاق العديد من القيادات عن الجيش السوري وتم تشكيل أول تنظيم عسكري ثوري لتوحيدهم وهو (لواء الضباط الأحرار)، وبعد شهرين من ذلك تم تشكيل الجيش السوري الحر ثم اندمج الاثنان في جبهة واحدة لقيادة العمليات العسكرية ضد النظام. لقد سيطرت الطائفة العلوية التي تنتمي اليها الأسرة الحاكمة (الأسدية) على مفاصل الأجهزة الأمنية والمخابراتية بل وعملت على وضع سياسة للانضمام للجيش تضمن لها التفوق على ما عداها، وبذلك فقد أصبح اختراق هذه الأجهزة هو من أكثر الأمور صعوبة وهو ما أدى إلى إطالة عمر النظام برغم كل الأحداث والمتغيرات. لقد ظل العالم يدين ويشجب تطورات الأوضاع الدامية في سوريا على مدى شهور عديدة دون أن تتخذ العديد من الأطراف المؤثرة مواقف أكثر إيجابية بغرض وقف سيلان الدم السوري والانهيار المتسارع في الحياة المدنية، حتى أصبحت سوريا خرائب وأطلالاً وأصبحت المدن والقرى السورية مدائن للأشباح والخراب. وبرغم المحاولات العربية (المتواضعة) التي قامت بها الجامعة العربية بغرض خلق توازن بين مطالب الثوار ومطالبات النظام، التي وصلت إلى حد إرسال مراقبين لتقييم الأوضاع، بل وبأكثر من ذلك تقديم مبادرات لحل الأزمة مع تأكيدها على الرفض القاطع لأي تدخل عسكري في سوريا ومطالبتها في سياق ذلك لمجلس الأمن الدولي بدعم مبادراتها من أجل إكسابها شرعية أكبر، إلا أن كل تلك المبادرات لم تجد سوى الرفض واعتبرها النظام السوري تدخلاً سافرًا في شؤون سوريا الداخلية. ووقفت روسيا مع الموقف الحكومي المتشدد مدعمة ذلك هي والصين باستخدام حق النقض (الفيتو) لأي قرار من شأنه إدانة العنف في سوريا والتمهيد لإجراءات أكثر إلزامًا للنظام بتغيير سياساته ضد مواطنيه. الآن ومع اقتراب الذكرى الثالثة للثورة تبدأ ملامح جديدة في التشكل بشأن التعاطي الدولي مع النظام السوري وبالضرورة الأزمة السورية التي تزداد تفاقمًا كل يوم. فقد بدأت واشنطن ترسل إشارات واضحة للنظام السوري ببدئها لصفحة جديدة في تعاملها مع المعارضة السورية واتضح ذلك جليًا في إعلان الولاياتالمتحدة تعزيز دعمها للمعارضة وذلك كمساعدات لوجستية مدنية ومبالغ مالية من أجل مساعدتها على القيام بمهام الحكم في المناطق التي تسيطر عليها وهو ما يمثل تحولاً نوعيًا في السياسة الأمريكية تجاه الوضع في سوريا. وتظل واشنطن ترفض تقديم مساعدات عسكرية للمعارضة بدعوى خوفها من الإسلاميين في صفوفها بحسب تعبير الرئيس الأمريكي. وهو عين السبب الذي جعل الأحداث الدامية في سوريا تتطاول آمادًا دون أن يطرف للعالم جفن. فالخوف من صعود الإسلاميين السنيين وربما حكمهم لسوريا يجعل العديد من دول العالم و(المنطقة) في حالة تردد مشين من اتخاذ خطوات تحسب لصالح الثورة ومن قبلها لصالح الشعب السوري الجريح. إن تطاول أمد المعاناة السورية وحلول الذكرى الثالثة على بداياتها الدموية لهو أكبر دليل على سياسة الكيل بمكيالين التي تحكم العالم الآن بكل دوله ومنظماته ومحاكمه العدلية الأممية وغيرها مهما تكن، وفي أقرب مثال على ذلك يتضح الأمر جليًا في التدخل الدولي المتعجل في مالي خلال الأسابيع القليلة الماضية بغرض ضرب المعارضة الإسلامية، ثم التعامي الذي يبديه العالم تجاه ما يحدث للشعب السوري ولحقيقة الوضع المتأزم في سوريا الذي لم يعد يحتمل السكوت عنه.