هذه كارثة مضاعفة. أن يتحول العنف إلى ظاهرة في ساحة التجاذب السياسي، وأن يعمد بعض السياسيين والإعلاميين إلى تبريره وإضفاء الشرعية على ممارساته. صحيح أننا شهدنا بعد الثورة اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة، وأحيانًا اشتباكات بين مؤيدي القوى السياسية المختلفة، لكن الذي نراه هذه الأيام شيء مختلف تمامًا، ذلك أن العنف اتسع نطاقه بحيث بات يتسم بالقسوة والغل. ولم يعد يستهدف إيذاء الطرف الآخر وإيجاعه، ولكنه أصبح يقترن بالتعذيب وبالسحل في بعض الأحيان، ليس ذلك فحسب وإنما صرنا نسمع من بعض أهل السياسة كلامًا مدهشًا في تبريره والتأييد الضمني له. فمن قائل إن العنف يولِّد العنف وقائل بأن من بدأ يتحمَّل المسؤولية، وقائل بأن المفاصلة باتت ضرورية، «لأن الوطن لم يعد يسعنا معًا». الأمر الذى وضعنا بإزاء تسويغ مبطَّن للاغتيال المادي والجسدي عند طرف، والاغتيال السياسي والمعنوي بالإقصاء عند الطرف الآخر. هذه اللغة جديدة ليس فقط على الخطاب السياسي في مصر، ولكنها جديدة أيضًا على طبائع المصريين وسلوكهم مع المغايرين أو المختلفين. رغم أننا لا نستطيع أن نصف العنف الدائر بأنه ظاهرة مكتملة الأركان، لأن نطاقه لايزال محدودًا بصورة نسبية. إن المرء لا يستطيع أن يُخفي دهشته واستغراب ما يراه، حين يجد أن الثورة أسقطت نظام مبارك بسلميتها واحتشادها الجماهيري، وبعد نجاحها لجأ بعض المنتسبين إليها إلى العنف لتصفية حساباتهم وخلافاتهم. وفي حين أننا عانينا من عنف السلطة قبل الثورة فإذا بنا نشهد عنفًا من جانب المجتمع بعدها. ثم إن ذلك العنف الشرس أصبح يمارَس في ظل الدعوة إلى إقامة دولة مدنية، كما بات يُبرَّر من جانب بعض السياسيين الذين ما برحوا يعظوننا بضرورة الحوار باعتباره الوسيلة الأنجح والأكثر تحضرًا في حسم النزاعات...إلخ. إننا لم نعرف حتى الآن على وجه الدقة من يمارس العنف الذي لا يختلف أحد في أنه ليس من طبائع المصريين، وهم من عُرفت عنهم الطيبة والتسامح، واللطف أحيانًا. لكننا نعرف أن مؤشراته تزايدت مؤخرًا في دائرة التجاذب السياسي، خصوصًا بين جماعات المعارضة وبين الإخوان المسلمين. والشائع أن الذين يمارسونه خليط من المحتجين والغاضبين الذين ربما خرج بعضهم إلى الشارع لأسباب معيشية وليست سياسية مباشرة. كما أن منهم بعضًا من الفوضويين، إضافة إلى البلطجية والعاطلين وأطفال الشوارع، وهؤلاء يقال لنا إن بعضهم مجندون ومدفوعون من آخرين يتردد أنهم يسعون إلى زعزعة الاستقرار فى البلاد. نعرف كذلك أنه أيًا كان الفاعل، فالحاصل ان العنف بمختلف تجلياته أصبح حقيقة ملموسة فى الأفق السياسى، وصار عنوانًا شبه ثابت فى الصحف اليومية. لأن هوية المتظاهرين المشتبكين ليست معروفة على وجه الدقة، فإننا لا نستطيع ان نستفيض فى الحديث عن أهدافهم، مشروعة كانت أم غير مشروعة، خصوصًا أن ما يهمنا فى اللحظة الراهنة هو الوسائل المستخدَمة، والغريبة على الطبع والسلوك المصريين. لقد عرفت مصر إرهاب بعض الجماعات فى ثمانينيات القرن الماضى، لكنه ظل مرفوضًا ومستنكرًا من المجتمع ثم انه كان محصورًا فى دوائر محددة ومعلومة لا تتمتع بأى غطاء سياسى. واستمرت تلك الممارسات لبعض الوقت ثم توقفت وطُويت صفحتها بعد ذلك. بل ان مجموعات من الذين مارسوا العنف تراجعت عن أفكارها وغيرت من قناعاتها وانتقلت إلى المشاركة فى الحياة السياسية حين أُتيح لها ذلك. أما العنف الراهن فدائرته أوسع ثم إنه يُمارَس تحت غطاء سياسى وتشجيع إعلامى معلن، ولا يكاد يلقى استنكارا من كثيرين، ناهيك أنه ليس موجهًا ضد السلطة، ولكنه موجه ضد فصيل آخر فى المجتمع. إن السكوت عن العنف الظاهر أقرب إلى اللعب بالنار، لأن ما هو ظاهرة طارئة الآن قد يتحول بمضي الوقت إلى جزء من ثقافة المجتمع، الأمر الذى يفتح الأبواب أمام احتمالات هيكلته وتوفير غطاء تنظيمى ومؤسسى له، وإذا ما حدث ذلك لا قدر الله فإن السياسيين والإعلاميين الذين يسوغونه ويبررونه يكونون قد ارتكبوا جريمة فى حق الوطن. إذ لكى يحققوا انجازًا تكتيكيًا فإنهم أسهموا فى تشويه المجتمع وألحقوا به خسارة استراتيجية فادحة. أيًا كان الأمر فالقضية تتطلب انتباهًا وتداركًا سريعًا من جانب الوطنيين المخلصين الذين يهمهم انتصار الثورة بأكثر مما يهمهم انتصار فريق على آخر.