الصورة الموحية للأسى والحزن أعلاه هي لأحد أبرز المعالم الصناعية والتاريخية «مصنع كرتون أروما» والتي نشرناها في هذا الملف الأحد الماضي عبر زاوية «صورة وتعليق» أحدثت حراكًا كثيفًا وأفلحت في إعادة فتح ملف هذا المصنع الذي صنع مجدًا وتاريخًا لمنطقة أروما وكان المعلم الأبرز والأشهر ليس على مستوى أروما أو كسلا فحسب ولكن شهرته عمت السودان بل امتدت إلى آفاق أروبا «ومصنع كرتون أروما» كان مشروعًا شكل أثرًا كبيرًا في النشاط الاقتصادي على مستوى ولايات الشرق كافة حيث تم انشاؤه في عهد الرئيس الراحل إبراهيم عبود في نهاية الستينيات، كمنحة من دولة يوغسلافيا فكل شيء من المقومات كان متاحًا لإنشاء هذا المصنع وكانت المادة الخام لهذا المصنع تأتي من مشروع القاش الزراعي شجرة «الخروع» وبقايا سيقان القطن لإنتاج الكرتون المقوى غير القابل للتشكيل، حيث إنه يصلح في تجليد الكتب وكان يستوعب هذا المصنع الكثير من الطاقات والأيدي العاملة التي ساهمت في الانتعاش الاقتصادي للمنطقة، وللسودان ولكن الصورة التي نشرناها كبقايا أطلال لهذا المصنع عكست تمامًا حقيقة الأزمة والإهمال الذي أصاب هذا الصرح وكيف أن تعاقب السنوات والحكومات قست عليه وحولته لاشلاء وبؤس والمصنع قصته طويلة ومؤلمة تداخلت فيها سلطات ومسؤوليات وسياسات عديدة تكالبت جميعها لتسديد الضربة القاضية والقاتلة لهذا الصرح التاريخي والذي يقف الآن في محطة التلاشي قبل أن يقدم القائمون بأمره من إغلاقه وتؤول مسؤولياته إلى اتحاد الجمعيات التعاونية بحلفاالجديدة وذلك في مطلع حقبة التسعينيات حسبما تتحدث الروايات. وحتى نقترب من حقيقة ما جرى لمصنع كرتون أروما استمعت «الإنتباهة» إلى الخبير محمد سيد إمام أحمد الناشط في مجالات العمل التعاوني والمدير السابق لمطاحن حلفاالجديدة الذي أحزنته صورة المصنع فحركت فيه أشجان قديمة فجاء إلى مباني الصحيفة يحمل أوراقه ومستنداته قائلاً إنه حضر إلينا لتوضيح بعض الحقائق وتبرئة ذمته من كل ما لحق بالمصنع ووضع أمام الصحيفة حقائق ربما تنشر لأول مرة حول عملية أيلولة المصنع إلى اتحاد الجمعيات التعاونية بحلفاالجديدة والذي كان فيه الخبير محمد سيد أحد أعضائه البارزين في مطلع التسعينيات. في المستهل أوضح الخبير سيد أن مصنع كرتون أروما هو في الأصل منحة يوغسلافية تأسس في العام (1962) إبان حقبة إبراهيم عبود بهدف صناعة الكرتون والورق لتعبئة إنتاج الفواكه وتصديره بحكم أن منطقة دلتا نهر القاش كان يزرع فيها القطن والخروع وهذا يعني توفر المادة الخام التي تصنع منها عجينة الكرتون ولكن بعد توقف زراعة القطن بالدلتا توقف المصنع في العام (1991) وتعددت مشكلاته فوجّه السيد رئيس الجمهورية بنقل المصنع إلى منطقة حلفاالجديدة ليتبع إلى اتحاد الجمعيات التعاونية وبالفعل بدأت عمليات النقل وتم الاتصال بمركز البحوث والاستشارات الصناعية بمنطقة بحري حيث تم تصميم دراسة شاملة لنقل المصنع إلى حلفا وتم تحديد ميزانية للصرف على هذه العملية بلغت حوالى (45) مليون جنيه آنذاك وما زال هذا المبلغ موجود في أصول الاتحاد باسم مصنع كرتون أروما. ولكن حينما بدأت العملية الفنية بتفكيك أجهزة ومعدات المصنع في أروما لترحيلها احتج المواطنون واعترضوا على هذه العملية ورفضوا تمامًا نقل المصنع إلى حلفاالجديدة الأمر الذي دفع حاكم كسلا في ذلك الوقت بإصدار قرار آخر برفض تحويل المصنع الى حلفا رغم توجيهات وقرارات رئيس الجمهورية بعملية النقل وهنا توقف كل شيء فاستجاب أهل حلفا لهذه الاحتجاجات وقالوا حينها: (نحن الذين تخلينا عن حلفا القديمة إبان عملية التهجير في «1965» فمن السهل التخلي عن هذا المصنع) رغم أن كل الإمكانات والمواد الخام والأيدي العاملة متوفرة في حلفاالجديدة ولهذا نعتقد أن قرار السيد رئيس الجمهورية بنقل المصنع إلى حلفاالجديدة كان قرارًا صحيحًا لأنه يستحيل أن يعمل هذا المصنع في أروما لأنه بخلاف عدم توفر المادة الخام أيضًا لا توجد طرق مسفلتة ولا بنيات تحتية أو خدمية في أروما، ولكننا الآن كاتحاد للجمعيات التعاونية أبرياء مما لحق بالمصنع من إهمال وضياع وهذا الإهمال يعني فشل السياسات والشعارات التي تبنتها الحكومة بشان الصناعة في بلادنا. وجرت الأقدار بأن تتعرض ولاية كسلا الى هجوم من المتمردين وتصبح في حالة حرب في فترة ما بعد منتصف التسعينيات وحتى ميلاد اتفاقية الشرق فكان الهجوم على كسلا من ناحية تلكوك وأروما فاتخذت القوات المسلحة السودانية مصنع كرتون أروما كمعسكر للجيش ويبدو أنه منذ ذلك التاريخ ما زال المصنع في غير أثوابه المدنية. ولمزيد من الإيضاحات حول المراحل التي شكلت واقع مصنع كرتون أروما اتصلت «الإنتباهة» باللواء «م» يونس محمود قائد اللواء (34) بأروما في الفترة من (2002 2007) وكانت إفاداته تمضي في اتجاه أنه ليس بمقدور أي جهة أن تعيد هذا المصنع الى مجده بحكم أن هناك ظروفًا طبيعية وإدارية عطلت المصنع إلى جانب الإهمال الكبير الذي طاله. وقال اللواء يونس إن قرار السيد رئيس الجمهورية بنقل المصنع الى حلفا لا يعني في ذاته ولكن المقصد هو تحويل أنقاض وحطام المصنع للاستفادة من معداته وآلياته في حلفا وأشار إلى أنهم في اللواء (34) استفادوا من بقايا وزنك هذا المصنع في تشييد أكبر عريشة أو مظلة للجيش على مستوى السودان في مساحة (400) متر بالتنسيق مع الجهات الرسمية وما زالت موجودة في أروما وليس صحيحًا أن المواد الخام متوفرة في حلفا وأصبح المصنع الآن خارج التاريخ ولا يمكن إعادة تشغيله خصوصًا أن شجرة المسكيت غطت على (60%) من أراضي دلتا القاش التي كان يعول عليها في زراعة القطن والخروع وحتى الأموال التي تم رصدها لإزالة المسكيت تمت بعثرتها وضياعها عبر الشركات التي تم التعاقد معها وما زالت قضاياها مستمرة في المحاكم. ومن الحقائق الجديرة بالإشارة التي ذكرها يونس محمود أن مصنع أروما استفادت منه القوات المسلحة بعد أن أصبح معسكر وفر لها الظل والماء في الفترة التي اعتدت فيها جبهة الشرق والحركة الشعبية على كسلا وقتها كانت أروما منطقة عمليات.