يتحدَّث بعضُ الناس وكثيرٌ من المسؤولين وفي صحبتهم وعضدهم ودعماً لما يطرحونه كُتاب ومثقفون ادِّعاءً يُفترض أن يكونوا هم أكثر الناس وعياً بما يجري وأكثرهم فهماً لما تُخطِّط له الحركة الشعبيَّة قطاع الشمال وما يُسمَّى بالجبهة الثوريَّة، يُحدِّثنا هؤلاء وأولئك عن ضرورة تقديم التنازلات قبل الذَّهاب إلى المفاوضات، تنازلات يقولون عنها أن تكون اختياريَّة وكافية يقدِّمها المؤتمر الوطني الحاكم لمصلحة العمل السياسي، تنازلات يصفونها بأن تكون بلا حدود وغير مشروطة يقابلها تنازل حاملي السلاح عن مشروعهم المعبَّأ بالبارود. هكذا يقولون ويكتبون ويشكِّكون في قدرات القوات المسلحة. لا أحد من هؤلاء قال لنا ما هي التنازلات التي ينادون بها وما هو حجمها ومداها؟! ونسأل، هل بقي من تنازلات بعد نيفاشا؟؟ { إذا نظرنا إلى الذين يقودون التمرُّد الآن، عقار والحلو ومني وعرمان وما قُدِّم لهم وما أُتيح لهم حتى أصبحوا بين الناس معزَّزين مكرَّمين سلطة وجاهًا ومنصبًا ومالاً وخططًا تنموية لأقاليمهم تحت رعايتهم وإشرافهم، فماذا بقي من تنازلات تُمنح لهم؟؟ { ألم يصل بأحدهم الصلف والتعالي ليقول للناس إنني ورئيس الجمهورية كهاتين رافعاً أصبعيه، ويزيد قائلاً: له جيش ولي، وله قصر ولي، وله سلطة ولي. فأي تنازلات بعد ذلك تُقدَّم؟؟ { ألم يكن للذي هلك بمثل ما لدى أخيه وصاحبه؟؟ فأي تنازلات بعد ذلك تُمنح؟ { ألم يكن لأحدهم مكتب مجاور لمكتب رئيس الجمهورية وجاه وسلطان ومال كثير وجيشه يفتك بالآمنين في بيوتهم في المهندسين والطرقات والقرى الآمنة ولا يُحاسَب؟ فأي تنازلات فوق ذلك تقترحون؟ { ألم يرشِّح ابنُ واشنطن المدلل نفسَه لرئاسة الجمهورية وكان يُصرِّح ويُعلن للناس ومؤيِّديه أنه على أبواب القصر غداً رئيساً والمؤيدون لمشروع السودان الجديد والعلمانيون كمبارس من خلفه يرقصون ويطربون؟، فأي تنازلات من بعد ذلك ينشدون؟ { وهل يعتقد الذين ينادون بمزيد من التنازلات أن حَمَلَة السلاح سيتنازلون عن مشروع السودان الجديد؟ { ألا تعلمون أنَّه مشروع أمريكي كامل الدسم وما هؤلاء إلا أداة لتنفيذ مراحله وأن لكل منهم دورًا يلعبُه ومتى ما مات أو قُتل هناك من يخلفه؟؟ { ألم يكن جمع المعارضة المسلَّحة والسياسيَّة التي تعيش في حلم الوصول إلى السُّلطة فيما يسمَّى بميثاق الفجر الجديد تم الترتيب له والصرف عليه من واشنطن؟ { ألم يتم من قبل تكوين ما يُسمَّى بالجبهة الثوريَّة وتمَّت اجتماعاتُهم داخل عاصمة الجنوب بمباركة دولة الجنوب وتمويل الإدارة الأمريكيَّة؟ { إذًا فما هو سقف التنازلات التي تطالبون الحكومة بتقديمها؟؟ {وهل سيقبل بها الشعب السوداني وقواته المسلحة بعد الذي جرى أمام أعين الناس في أب كرشولا وما جاورها؟ حرائر يُغتصبْنَ ورجال يُذبحون، ونساء تُنتهك أعراضُهنَّ، وأطفال بين قتيل وتائه ومشرد وأموال تُنهب، وبنيات تحتيَّة تُدمَّر ويتم ذلك دون أخلاق أو إنسانيَّة تردعُهم؟؟ { أخي القارئ الكريم إن الأمرَ لن يكون حلُّه في تنازلات والذهاب إلى مفاوضات من موقع ضعف وهوان!! { إنَّ الأمر لن يكون حلُّه في تنازلات جديدة وبين الديار والغابات والجبال متمرد يحمل السلاح يقتل الناس الآمنين وينهب الأموال!! { إن الأمر لن يكون حلُّه في مزيدٍ من التنازلات والمعارضة السياسيَّة تتآمر مع حَمَلَة السلاح للوصول بالوطن إلى الفوضى لكي يصلوا هم للسُّلطة. { الأمر أخي الكريم يحتاج لوقفة عزَّة وكرامة وتعاضد ونكران ذات ونظرة وطنيَّة بعيدًا عن المصالح الضيِّقة. { الأمر يحتاج لتنازلات لجمع الصفّ الوطني وخلق وحدة وطنيَّة تجابه مخطَّطات مشروع السُّودان الجديد. { الأمر يحتاج إلى تحرير القرار السياسي من الخوف على المال والنفس والسُّلطة!! { الأمر يحتاج إلى عدم تقييد القرار العسكري وتفويض القوات المسلَّحة بالقيام بمهامها بما يحقِّق الأمن بعيداً عن النظرة السياسيَّة الضيِّقة وأشواق المفاوضين وتكبيل أيدي القادة في الميدان؟ { الأمر يحتاج أن يكون القرار السيادي واحدًا يخرج للناس بعد دراسة وتمحيص ويوضع موضع التنفيذ دون المساس به أو الخروج عليه. { سأظلُّ أسأل من يطالبون بمزيد من التنازلات ألا تقولون للناس ما هي؟؟ { أقول ذلك وفي ذاكرتي موقف الرئيس جمال عبد الناصر عندما وقف يخاطب الشعب المصري بعد تآمر الغرب «أمريكا وفرنسا وبريطانيا» على مصر ورفض تمويل البنك الدولي لمشروع السد العالي. وقف مخاطباً الشعب يهيِّئه لقرارات يُريد اتخاذَها وبعضُ المنكسرين كانوا ينادون بالتريُّث وتقديم مزيد من التنازلات!! فقال جمال: «ذهبنا للبنك الدولي وصندوق النقد وطلبنا منهم تمويل السد العالي، رفضوا الطلب. سألنا طيِّب ليه؟؟ وجدنا أنهم عايزنِّي أتنحَّى ويقعد حد منهم مطرحي، ويتنحَّى وزير المالية ويقعد حد منهم مطرحه، ويتنحَّى مدير البنك المركزي بتاعنا ويقعد حد منهم مطرحه، ويقعدوا هم يحكموا ويتصرفوا ونحن نتفرَّج، شفتوا إزّاي عايزين يعاملونا؟؟ «انتهى». وقرَّر الرئيس جمال في خطابه ذلك اليوم تأميم قناة السويس، وجيَّشت الدول الغربية وإسرائيل جيوشها وضربوا مصر وحدث ما حدث وبقية القصة معروفة، وقناة السويس أصبحت مصريَّة مائة المائة!! واليوم كأنما يقول المطالبون بمزيد من التنازلات المساندون لمشروع السُّودان الجديد على الرئيس البشير أن يتنحَّى ويقعد مطرحه مالك عقار، وعلى شيخ علي أن يتنحَّى ويقعد مطرحه مني أركو مناوي، وعلى الحاج آدم أن يتنحَّى ويقعد مطرحه من يخلف الحلو، وعلى نافع أن يتنحَّى ويقعد مطرحه ياسر عرمان، وتقعد الحكومة تتفرَّج والمجلس الوطني يبصم لهم والشعب يتفرَّج والدولة تُصبح علمانيَّة لا هويَّة لها ولا عقيدة. وهل من تنازلات غير ذلك بقيت؟؟