عندما جاء الإنجليز إلى السودان عام (1898م) فكروا في استغلال موارد البلاد وأدركوا بحسهم الاستعماري أن السودان يتمتع بثروات طائلة حيث الأراضي الشاسعة الخصبة ونهر النيل وفرعيه الأبيض والأزرق وقرروا الاستفادة من هذه الإمكانيات. الشاهد في الموضوع أنهم خططوا لمشروع زراعي كبير لزراعة القطن طويل التيلة وذلك بغرض الاستفادة منه في صناعة الغزل والنسيح في مصانع لانكشير ومانشستر وهي أكبر مغازل موجودة في العالم في ذلك الوقت. ومن ثم بدأوا في استئجار الأراضي من الأهالي وعملوا على إنشاء خزان سنار وذلك لتوفير المياه للزراعة وشقوا الترع والقنوات وأقاموا أكبر مشروع زراعي في العالم تحت إدارة واحدة وتبلغ مساحته حوالى اثنين مليون فدان وكانت المرحلة الأولى وهي مشروع الجزيرة والثانية مشروع امتداد المناقل وكان ذلك بغرض أن يخدم كل أهل الجزيرة المشروع والضمان نجاح التجربة تأخر مشروع امتداد المناقل. ولم يكتف الإنجليز بذلك بل سمحوا للسيد عبد الرحمن المهدي بزراعة القطن في مساحات واسعة على نهر النيل الأبيض مشروعات الإعاشة وكذلك قاموا بزراعة العديد من المحاصيل النقدية والزراعية في الأراضي البور وكذلك عملوا على إنشاء مشروع عبد الماجد الزراعي وغيرها من المشروعات إيماناً منهم بأن السودان بلد زراعي وتتوفر فيه كل الإمكانات الزراعية ولقد استفادوا من هذا الجانب لأنهم أتقنوا الأداء في مشروع الجزيرة. ولعل من نافلة القول أن نقول إن ذلك التخطيط الرائع لمشروع الجزيرة من إقامة المكاتب والسرايات ومنازل الخفراء على الترع والتي كانت تمثل نقلة حضارية ووقتها كانت البلاد تعيش في أمان دون سلب ونهب ويعيش الناس في الأطراف دون حماية ودون حراسة فهي السبب في نجاح مشروع الجزيرة ويتمثل ذلك في أنه أصبح العمود الفقري لاقتصاد السودان ولقد جاء أهلنا من كل أنحاء السودان من الشمالية ومن غرب السودان وغيرها للاستفادة من خيرات المشروع ولقد استفاد أهل الجزيرة أو أهالي مديرية النيل الأزرق تحديداً من هذا المشروع لأنهم أصحاب الأرض وقسمت لهم الحواشات وأثروا ثراء عريضاً وقتها لدرجة أنهم بنوا منازلهم بالطوب الأحمر بدلاً من الطين واشتروا الثلاجات من شركة النور والراديو وعملوا على تعليم أولادهم وبناتهم وامتلأت جيوبهم بالأموال لدرجة أن أحد الساخرين من ذلك قال إن المزارع كان يوقف صاحب البص ويقول ليه: (بالله بوري بقرشين) يعني أضرب بوري بقرشين. ظل هذا المشروع العمود الفقري لاقتصاد السودان وازدهرت المدن التي تقع فيه وترعرعت بسرعة ونمت تجارياً وصناعياً نتيجة لتوفر مدخلات الصناعة التمويلية من زيوت وغزل ونسيج، ولعل من المدهش حقاً أن نرى نهضة في صناعة الغزل والنسيج في ولاية الجزيرة ومصانع تجمع الآلاف من أبناء السودان ومشروع يجمع الملايين من أبناء الوطن وكل ذلك تدهور دون أن يجد عناية ورعاية ومصانع ضخمة أصبحت مغلقة سواء كانت في القطاع العام والخاص وانقطع رزق العاملين بها. وكذلك موظفي مشروع الجزيرة الذين هاموا على وجههم. إن انهيار مشروع الجزيرة وتردي الخدمات به كلف المزارعين كثيراً حيث أصبحوا ليس في مقدورهم مواصلة الزراعة نظراً لارتفاع تكاليف الزراعة وأصبح العمل فيه للذين لديهم المال والقدرة على العمل بأيديهم كأجراء أو شركاء. وإذا سألت عن التمويل من البنك فإنه يمتص معظم ما يدره المزارع من ربح وبالتالي يتعرض للخسارة أي المطالبة من الجهة الممولة وقد يدخل السجن ولم يخرج حتى يسدد ما عليه من ديون. إن مشروع الجزيرة هو رائد الزراعة في العالم ولا يحتاج من الحكومة إلى بذل جهد كبير وهو ضمان لغذاء أهل السودان كما أنه يوفر لهم الكساء ويخدم كثيراً من العمالة والبطالة في السودان. وأنا أراهن على أنه ثروة أكثر من البترول والذهب والمعادن الأخرى فعلينا أن ننوع الموارد ونستفيد من هذا المشروع الضخم الذي ورثناه من الاستعمار بل هو الحسنة الوحيدة التي استفاد منها أهل السودان من الاستعمار الإنجليزي. نرجو من الدولة ونخص في ذلك وزارة الزراعة وولاية الجزيرة أن تسعى إلى إعادة المشروع إلى حيويته ونشاطه وطريقته التي بدأ بها ونُدخل أساليب الزراعة الحديثة من ميكانيكا وتقاوي محسنة وأسمدة غير ضارة ومفيدة للزراعة وحل قضايا المزارعين وإعادة كل الخدمات ثم نعود إلى المشروع نفسه ونتعرف على المزارع النشط والجاد في زراعة الأرض لأن الأرض لمن يفلحها لأن كثيراً من الأراضي في داخل المشروع وهي بور كان أن هناك جماعات لم تهتم بالزراعة وهي تملك حواشات داخل المشروع ومنحت لهم من قبل الدولة لاستثمارها وليس للامتلاك والبيع والشراء، إن خبايا المشروع كثيرة وإن مشروع الجزيرة والمناقل يحتاج إلى دراسة متأنية وبحث كامل وإن هذا لا يتأتى إلا في ظل إدارة قوية وممتازة وناجزة ومبدعة في الأداء والإنجاز والحسم وإصدار القرارات التي تخدم المشروع والمزارعين والعاملين فيه. ويجب أن نعلم أننا دولة زراعية ولقد أنعم الله علينا بنعمة كبيرة من أراضٍ خصبة وماء ري مستديم فعلينا أن نستغل هذه الإمكانات ونعمل على تطويرها وتنميتها من أجل بناء السودان الجديد سودان الغد وسودان الأجيال وإلا فسوف يكون مشروع الجزيرة هرة تأكل بنيها وذلك نظراً لتدهور الخدمات من ري وعدم وجود تقاوي وأسمدة لتحسين الأرض فأرجو من الدولة الاهتمام بهذا الأمر لأنه عصب الحياة لأهل السودان ألا فعلت الدولة ذلك.