«أحكموا علينا بأعمالنا»، شعار أطلقه الفريق إبراهيم عبود الذي استولى على السلطة في الخرطوم في 17 نوفمبر 1958 وما يقصده هو تقييم أعمالهم التنموية والخدمية، فقد اهتم النظام العسكري الجديد بإنشاء عدد من المشروعات التنموية مثل إنشاء مصانع للسكر والأسمنت وشرع في تشييد طريق الخرطومود مدني، بيد أن الجماهير في الحادي والعشرين من أكتوبر 1964 أجابت عملياً على هذا الشعار الذي ظل يرفعه النظام طوال سنوات حكمه عندما ثار ضده الشعب في ثورة جماهيرية عارمة حيث أبانت أن مطلوبات الحرية وتحقيق كرامة المواطن تعلو على حوافز التنمية والخدمات الميسرة، ففي تلك الحقبة لم تعانِ الجماهير من شظف العيش وكانت خدمات التعليم والصحة مجانية والجامعة الحكومية الوحيدة جامعة الخرطوم يرفل طلابها في ترف من الخدمات السخية لكن النظام واجه احتجاجات من أهل حلفا عندما وقّع النظام مع الحكومة المصرية اتفاقاً قضى بترحيل سكان المنطقة التي ستغمرها مياه السد العالي الذي تشيده القاهرة. وكان النظام قد وقع أيضاً مع مصر اتفاقية مياه النيل التي منحت مصر 55 مليار متر مكعب واكتفت بمنح السودان 18 فقط رغم أراضيه الشاسعة والصالحة للزراعة ولهذا أثارت علاقة النظام مع مصر وكرمه الفيّاض تجاها اتهامات حول دور مصر في انقلاب نوفمبر سيما فقد عرف الفريق عبود بارتباطه الوجداني مع مصر حتى أنه يتكلم اللهجة المصرية لكن المؤشرات تشير إلى أن عبد الله خليل الذي تتهمه العديد من المصادر بتسليم السلطة إلى عبود كان وطنياً حتى النخاع بل كاد يتسبب في تفجير هذه العلاقات حين كان رئيساً للوزراء عندما أمر القوات المسلحة بالاستعداد لإخلاء منطقة حلايب من القوات المصرية التي دخلتها، لكن الرئيس عبد الناصر الذي كان يرفع شعار القومية والتضامن العربي أمر قواته بالانسحاب ومن ثم انطوى الملف بسلام، لكن هذا لا ينفي خصوصية العلاقة بين نظام عبود ومصر حتى وإن لم يكن لمصر دور في الانقلاب، فقد حرص عبود في بيان انقلابه الأول أن يبشر بأنهم عازمون على إزالة ما وصفه بالأزمة المفتعلة مع مصر. كما وعد النظام الجديد آنذاك بإجراء انتخابات حرة في خلال عام لكنه لم يفِ بوعده حتى أن عبد خليل المتهم بتسليم السلطة لنظام عبود حرّض على انتزاع السلطة منه واضطر النظام إلى اعتقاله لاحقاً في عام 1962م وحاول النظام إيجاد حل عسكري لمواجهة التمرد في جنوب السودان الذي كان ذا صبغة انفصالية صريحة في ذلك الوقت وربما كان لعلاقة النظام الطيبة مع مصر دور في ذلك الخيار باعتبار أن القاهرة ترى أن انفصال الجنوب يهدد مصالحها في مياه النيل ويفتح باب النفوذ الإسرائيلي والغربي في المنطقة، لهذا لم يكن للكنائس العالمية دور في إسقاط نظام الفريق عبود فلا يعقل أن يكون كل المد الشعبي التلقائي الهادر نتيجة إيحاءات كنسية فإن كانت للكنائس العالمية دور مؤثر إلى هذا الحد لكان لذلك تأثير على ديانة الشعب نفسه، ولاشك أن عدة أسباب وراء الانتفاضة الجماهيرية العارمة في أكتوبر 21 ضد النظام منها قضية الجنوب التي زايدت عليها القوى السياسية وإغراق وادي حلفا.. لكن لعل السبب الرئيسي ربما كان هو غياب الحريات، فالنظام ضيّق على الصحافة وجمّد النشاط الحزبي تماماً وتوسع في الاعتقالات السياسية لكنه نجح في تحقيق الخدمات المهمة للجماهير مما يعني أن أسباب الانتفاضة ضده كانت سياسية بحتة كذلك شكّل تصدي النظام الفظّ للتظاهرات الشعبية في أكتوبر 1964 هو الذي عجّل بنهاية النظام سريعاً لكن بالرغم من أن نظام نوفمبر كما ذكرنا كان حليفاً لمصر لكن هذا لم يمنع القاهرة من مد جسور العلاقة الطبيعية مع النظام الديمقراطي المدني لاحقاً رغم تقاطعه مبدئياً مع النظام الناصري الاشتراكي القابض. وإذا كانت ثمة دروس مستفادة من هذه الذكرى السابعة والثلاثين لثورة أكتوبر الشعبية فلعلها تؤكد على أهمية التفريق بين العلاقات الحميمة مع الدول والحفاظ في ذات الوقت على المصالح الوطنية دون تفريط كما يستفاد أيضاً من دروسها أن الخبز والتنمية والخدمات السخية لا يمكن أن تكون قرباناً لغياب الحريات والدوس على الكرامة.