كتبت قبل ثلاث سنوات عن حادثة الكلاب الضالة التي تسللت في جنح الظلام إلى راكوبة في إحدى مناطق الحتانة ودلفت في هدوء ومكر لتختار ضحيتها الطفل «أكول» البالغ من العمر سنتين وتجره إلى الخارج لتبدأ في نهشه بقسوة، رأيت أن أعيد نشر هذا المقال بالرغم من أن الكلاب الضالة لم تهاجم طفلاً مرة أخرى حتى الموت لكن للحدث نفسه دلالات مستبطنة فكل ما نعانيه من معاناة وسلبيات سواء أكانت على الصعيد الاجتماعي من جانب المجتمع أو على الصعيد السياسي بقطاعاته المختلفة عبر تاريخنا المعاصر هي كلاب من نوع آخر ونبدأ بالحكاية: «الوالدان مستغرقان في النوم ربما بسبب الإنهاك وكفاح العيش القاسي أو ربما الطفل ألجمه الخوف والمفاجأة فكف عن الصراخ بعد أن شُلت حبال صوته «انما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، حكمة بالطبع ليست معنية بها الأغنام وحدها، فالكلاب المعتدية لن تستطيع أن تقتحم المنازل المسورة العالية أو الفلل المحصنة لكنها تختار معركتها في المتاح، و«أكول» وأسرته كانا متاحين ليس لغضبة الطبيعة وجنونها وقسوتها أحياناً لكن لهجمة الكلاب وإزعاج القطط الجائعة حتى الكلاب تختار الضعفاء ميداناً للعدوان كما يفعل البشر الأقوياء لكن الفرق أن الظلم في الأولى تستبطنه الفطرة بينما في الثانية يكرسه صراع النفس الآثم.. أسرة «أكول» لعلها عانت من صراع القبائل الدامي في الجنوب وجشع مافيا الأسواق وتجار الحرب وهجمات البعوض وقلة الحيلة هناك، لكن الخرطوم بصخبها وبقالاتها الكبيرة ومصانعها وشركاتها وسياراتها الفارهة وشوراعها المسفلتة وليلها الصاخب والهادئ والرمادي لم يتسع لجدران تأوي أسرة أكول تمامًا كما لم تتسع لأصحاب الدرداقات في الأسواق الشعبية وهم يبيعون عرقهم للمحليات قسراً وصاحبات العناقريب والسراير التي تؤخذ رهينة للإيجار في بعض الأسواق رغم أنف دموعهم ولبائعات الشاي اللائي يعانين من نذالة البعض وغيرة الأهل ونيران الشك وقسوة الحياة، كذلك فالخرطوم لم تتسع بصخبها وثرائها الظاهر والمستبطن لمن يرقدون على أسرَّتهم المتواضعة يغلبهم المرض وتحاصرهم فواتير العلاج المستعصية فيداهمهم الموت ليرحلوا في هدوء عبر عزاء يمتنع عنه أصحاب الأوداج المنتفخة والانتهازيون الذين لم تفتهم مواراة ثري أو نافذ، وحتمًا رحل «أكول» ليس على فراشه في راكوبته المتواضعة ولم يهزمه مرض عضال أو سيارة منفلتة لكن عضه كلب اقتحم أمان أسرته قهراً من حيث الأمان غائب لكن هذه المرة فمأساة أكول اقتحمت أبواب الإعلام على مصاريعها، لهذا فإن جنازته ربما سيتسابق عليها السياسيون لمرافقتها تتابعهم الكاميرات والأقلام مع أنهم لم يزوروا يوماً راكوبة أكول وملوال وحمد وأدروب رغم ان كلاباً عديدة من صنف آخر تهاجمهم في كل صباح جديد أليس الفقر كلبًا آخر له أنياب أخرى؟ أليس المرض والحرمان وقتل الأحلام كلبًا أيضاً والعجز عن دفع الرسوم الدراسية كلبًا ومحتكرو السكر أو الدقيق «كلاب» والمتاجرة بالمعاناة «كلب»؟ كلها تعض لكن أين المصل وأين الساتر؟. الكلاب هاجمت أكول ونهشت جسده الضعيف قبل أن يعرف الأحلام ورسم المستقبل على صخور المعاناة داخل راكوبته، فليس للأحلام سقف وليس للأمل كابح أوسعر يتربص، فلحسن الحظ أنه كالهواء غير خاضع للمضاربة وقسوة الجباة، إنه يتمرد على رواكيب القش وعنقريب الحبل والشعبة التي تسد الطريق وفتات الخبز الجاف وسانتدوتش الملوخية في الصباح، لكن الكلاب القاسية لم تدعه يكمل الحلم عندما يكبر، بيد أن الأهالي أصحاب النفرة أخذوا له بثأره وهو حي يُرزق عندما انقضوا على الكلب المعتدي وقتلوه، لكنهم هل يستطيعون أن يصدوا قسوة الحياة المتربصة في كل شبر يواجه أسرة أكول وآخرين في كل بقاع السودان الشاسع؟ إنها كلاب أنيابها تعض ولا تدمي ولا تفر كما فرت كلاب أكول لكنها تحاصِر ولا تُحاصَر ومع ذلك يبقي الأمل في غلبتها واندياحها، لكن الأمر يحتاج إلى شفافية ومراجعات هنا وهناك ووازع ديني ينمو يبسط العقيدة غير الملوثة بالابتداع أو غلبة اللسان على القلب. رحل أكول وشهادة وفاته تقول «التسمم الدموي بسبب مضاعفات جروح الكلب «الوحشي» لكن الشهادة الأخرى غير المكتوبة تقول إن الكلاب ليست وحدها يا أكول.