تقول الطرفة الواقعية إن مواطنًا سودانيًا زار دمشق العاصمة السورية في عهد الرئيس حافظ الأسد فاتصل من الفندق بأحد أصدقائه السودانيين هناك لزيارته في شقته فأخذ يصف له الطريق وقال له عندما تقترب من العمارة التي أسكن فيها ستجد لافتة كبيرة مكتوب عليها «أمة واحدة ذات رسالة خالدة» فقال له صديقه الزائر «كدي خليني من اللافتة دي مكتوبة في مخدتي في الفندق شوف غيرها»، والطرفة تشير الى مدى تغلغل الشعارات الجوفاء في الدولة البعثية، فالإعلام هناك أضحى بوقًا يتغنى بمضامين الاشتراكية والعدالة والحرية والوحدة في حين كانت كل هذه القيم والأدبيات التي يصدع بها النظام مهدرة، فرموز الحزب الكبار هم الذين يمثلون مراكز القوى في داخله ويستلبون إرادة الجماهير، وعضوية الحزب تتلقي التعليمات الفوقية وتنزلها عبر آلية مصطنعة. ومنذ تولي الأسد الأب صلاحيات رئيس الجمهورية في العام «1970» ثم انتخابة في العام «1971» ليتولى الرئاسة بشكلها الرسمي لم تذق البلاد طعمًا للحرية، وبات القمع وسجن المعارضين والتعذيب عنوانًا لحقبة طويلة امتدت حتى وفاته في العاشر من يونيو عام «2000» ليتولى ابنه بشار زمام السلطة مبشرًا بعهد جديد من الإصلاح السياسي تتحقق فيه الحريات وحقوق الإنسان في ظل قانون الطوارئ الساري المفعول منذ العام «1963» بيد أنه لم يفِ بوعده ولم يقدم إلا نسخة مستنسخة من والده الراحل، وحين انتشر الفساد وتفاقمت الأزمة الاقتصادية وازدادت حدة القمع وجيوش المعتقلين الذين يحتفل بهم الزبانية في المعتقلات السرية والعلنية وشمل حتى الأطفال الصغار بدأت الجماهير في الثورة حيث انطلقت الشرارة الأولى في يوم الجمعة الخامس عشر من مارس «2011» في مدينة دمشق ثم أعقبته أخرى في اليوم التالي مظاهرة تطالب بفك سراح المعتقلين ثم في محافظة درعا حيث بدأت السلطات في سفك الدماء فقتل حوالى أربعة متظاهرين وتوالت التظاهرات في تلك المنطقة وانداحت في العديد من المدن السورية في حين أخذ الجيش يقوم بعمليات القذف مما تسبب في مقتل العديد من المواطنين بقذف المدافع والطائرات التي ترمي البراميل المليئة بالمتفجرات في الأماكن السكنية، وتقول الإحصائيات قبل أكثر من عام إن عدد القتلى برصاص أجهزة الأمن والجيش بلغ حوالى 3105 وتتصدر مدينة حمص السورية وسط البلاد قائمة الضحايا ب 838 قتيلاً تليها مدينة درعا التي شهدت الشرارة الأولى للاحتجاجات بعدد 678 قتيلاً خلال الأشهر الستة الأخيرة، فيما عرفت مدينة السويداء جنوب البلاد النسبة الأقل من القتلى بعدد يبلغ ثلاثة قتلى، بحسب أحد المواقع الإحصائية آنذاك، وتقول اليونسيف إن 384 طفلاً قُتلوا في مطلع يناير 2012 وأثارت هذه المجازر الرأي العام العالمي، بيد أن الاحتجاج لم يتبلور إلى سلوك عملي من الأنظمة الغربية والولاياتالمتحدة، لكن حتى إدانتهم الخجولة تصدت لها روسيا والصين عبر فيتو مزدوج في أبريل من العام «2011»، ثم أعادا الكرة في أكتوبر أيضًا من نفس العام في حين لم تفلح الجامعة العربية في نزع فتيل العنف ووقف شلالات دماء الشعب السوري وفشلت بعثة الجامعة العربية في الخروج بتقرير واضح يمثل مرآة حقيقية لما يجري في ساحات القتل والسحل، واضطرت لسحب بعثة المراقبة واكتفى الأمين العام للأمم المتحدة كي مون بالشجب في أعقاب المواقف الدولية غير الضاغطة على النظام السوري، ووصف ما حدث بالوحشية المروعة، وعندما استخدم النظام السلاح الكيماوي فقتل به عددًا من الأطفال والمواطنين تحرك المجتمع الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة لكنهم حصروا القضية في إطار نزع االسلاح الكمياوي، بينما تُرك النظام يواصل قذفه للمدنيين بالطائرات، بينما يصر الرئيس بشار على عدم التنازل من سدة الحكم رغم أنهار الدماء التي لم تستثنِ حتى الأطفال والصبية، ويحاول عبثًا مقاومة رياح الربيع التي سبق أن اجتاحت كلاً من تونس ومصر وليبيا، إنه شبق السلطة وسكرها الذي لا يُفيق منه الطغاة إلا عندما تنزلق تمامًا أقدامهم من العرش ويستمر المسلسل ولن يكف النظام وغيره من الأنظمة التي تناصبها شعوبها العداء عن ترديد فرية العمالة والتآمر واتهام الخلايا الإسلامية المتطرفة، وحتى حدوث ذلك سيستمر حاكم سوريا في أمل التشبث بالسلطة مهما كان الثمن وإن كان جماجم شعبه الأعزل.