تباينت ردود الأفعال حول ما جرى في (أديس أبابا) بين وفدي الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، فقد وصفت بعض صُّحف الخرطوم خلاصة الجولة الرابعة من المفاوضات بالفشل، وقالت أخرى إن المفاوضات قد انهارت، وما بين خطل الصياغة وحب الإثارة والتشويق يقع القارئ الكريم في ورطة نتيجة لهذا التشويش، ولكن الذي يقرأ في سفر السلام منذ أن اعتمدته الحكومة وسيلة لغاية وهي جر حاملي السلاح إلى مسار السلام والتنمية والاستقرار ومنذ تلك اللحظة، يلحظ المراقب للشأن السِّياسي أن كل المفاوضات التي جرت من قبل هي صورة طبق الأصل من الذي جرى في (نيفاشا) أو (أبوجا) أو (الدوحة) من حيث السعي من قبل حاملي السلاح للمزيد من المكاسب مهما طال أمد التفاوض، وأن الاستثناء الوحيد في هذا المجال هو الذي جرى في مدينة (أسمرا) حيث وقعت الحكومة وجبهة الشرق على وثيقة أسمرا لسلام الشرق، وهذه هي الاتفاقية الوحيدة التي كان فيها خيار السلام هو الغالب، فقد بدأت المفاوضات على طريقة (هات من الآخر)، وحتى قائد فصيل الأُسود الحرة الدكتور/ مبروك مبارك سليم سار هو الآخر في طريق النهايات المنطقية، فقد ذهب إلى (طرابلس) وهناك وقعت معه الحكومة اتفاق طرابلس، ثم جاء إلى (اسمرا) للتوقيع على وثيقة سلام الشرق بعد تضمين اتفاق (طرابلس) في بنود وثيقة (أسمرا) لسلام الشرق. إذن اتفاق سلام الشرق هو الوثيقة الوحيدة التي تجاوزت عقبات التكتيك البريطاني في مسارات التفاوض، فقد درجت بعض المعاهد البريطانية المتخصصة في دراسات السلام على ترتيب جولات التفاوض بمراحل تبدأ أولاً بتقدم كل طرف بورقة تحمل موقفه التفاوضي ورؤيته حول الأجندة التي ينبغي أن ينحصر فيها التفاوض، ثم يذهب كل طرف لدراسة ورقة الطرف الآخر، ثم يتقدم الوسيط بورقة توفيقية تكون بمثابة خريطة طريق لمسار التفاوض، وبموجب هذه الورقة يتم تحديد أجندة التفاوض. وغني عن القول إن ورقة الوسيط تعتمد على الوثائق في ورقتي الطرفين، ويتم تحديد الأجندة على ضوء هذه الوثائق التي قدمها الطرفان. لأن الوساطة وفي سبيل تقريب وجهات تستبعد أي موضوع غير مسنود بوثيقة، لذلك حظيت ورقة الوفد الحكومي بالقدر الأكبر من الاهتمام لدى الوسيط لأنها استندت في تحديدها لأجندة الحوار حول المنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) إلى القرار الأممي (2046)، بينما انساقت الحركة الشعبية لقطاع الشمال إلى أماني حلفائها بالداخل (حل شامل للقضايا السياسية وليس تجزئتها)، وكلنا يعلم أن (أديس أبابا) ليست هي المنبر المعني بمثل هذه القضايا، لأن أجندة التفاوض هنا بين الحكومة وقطاع الشمال محكومة بالالتزام بالقرار الأممي (2046)، أما القضايا السودانية الأُخرى مثل الدعوة لمؤتمر دستوري والحوار حول ما تبقى من القوى السياسية، فهذا شأن يجري الإعداد له الآن بالداخل، إذ شرع (المؤتمر الوطني) ومنذ فترة ليست بالقصيرة في الحوار مع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني عبر وثيقة الإصلاح التي أشار إليها السيد/ رئيس الجمهورية بمرتكزاتها الأربعة، وقد انتهز بعض أبناء دارفور هذه الفرصة لتوسيع دائرة السلام باتجاه الغرب، وذلك بتهيئة الأجواء لإجراء حوار مع فصائل دارفور المتمردة بقيادة عبد الواحد محمد نور وأحمد عبد الشافع وأبو القاسم إمام. إذن ياسر عرمان ومن نافذة (أديس) يغازل بدعوته لحل شامل للقضايا السودانية حلفاءه بالداخل وحاملي السلاح بالخارج، لأنه يعلم أن مسار التفاوض الآن محصور حول المنطقتين النيل الأزرق وجنوب كردفان، ولكنه يريد استثمار الوجود الضخم للآلة الإعلامية تلك التي احتشدت في مقر المفاوضات بفندق (راديسون بلو)!! خلاصة الكلام أن تعليق المفاوضات بين الوفد الحكومي والحركة الشعبية قطاع الشمال ليس هو نهاية المطاف، بل هو نتيجة منطقية في مسار السلام، فها هو الوفد الحكومي يؤكد التزامه الكامل بالسلام وتمسكه بالحوار السلمي وسيلةً لإيقاف الحرب في إطار الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي (2046)، وها هي الحركة الشعبية لقطاع الشمال ترفع في نهاية الجولة الرابعة تصورها النهائي للأجندة للوسيط بحضور المبعوث الأمريكي (دونالد بوث) وممثلي الأممالمتحدة والاتحاد الأوربي والاتحاد الإفريقي، ويعلم الطرفان (الحكومة وقطاع الشمال) أن الوسيط قد قدم لكل منهما تصوراً للتوفيق بين ورقتي الطرفين، وذلك لحصر الخلافات في نقاط محددة مثل الجانب الإنساني ووقف إطلاق النار الشامل، بجانب التأكيد على أن التفاوض سوف يقتصر على قضايا المنطقتين عبر لجان ثلاث للجانب الأمني والسياسي والإنساني، ثم أغلقت الوساطة الباب أمام أية مماطلة محتملة من جانب قطاع الشمال، حين رهنت مناقشة أية قضية أُخرى بالحوار بين القوى السياسية السودانية بعيداً عن طاولة التفاوض حول قضية منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان!! إذن انتهت جولة ولم تنهر المفاوضات، فقد اتفق الطرفان على العودة مجدداً في السابع والعشرين من شهر فبراير الجاري، لتكملة ما تبقى من مسار التفاوض.