كما ذكرنا أمس وقبله، في سياق ما نقوم به من قراءة للمغزى بعيد المدى للحراك والصراع السياسي الجاري في السودان، فقد كان الإقدام على إبرام اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل بين الشمال والجنوب السودانيين، إضافة إلى المناطق الشمالية المختارة بعناية والمتاخمة للجنوب، والتي تم الاستدراج لإدراجها وإلحاقها وإقحامها في هذه الاتفاقية لدى إبرامها إثر اكتمالها في العام 2005م بعد مفاوضات ماراثونية شديدة الوطأة بين السلطة الحاكمة القائمة والمعبرة عن الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة والمؤسسة لها بانقلاب ثوري مدني وعسكري قامت به في العام 1989م، وبين الحركة الشعبية التي كانت متمردة ومنطلقة من محورها الجوهري والمركزي بالجنوب السوداني عام 1983م في مناهضة مسلحة ومدعومة من جهات أجنبية عاتية ومعادية للسلطة الوطنية المركزية التي ظلت سائدة وطاغية في السودان منذ الاستقلال من الاستعمار والإعلان عن ذلك في العام 1956م.. كان إبرام هذه الاتفاقية الوعرة والخطرة بمثابة إقدام من الطرفين المشتركين والمتشابكين والمشتبكين فيها على القبول بالدخول في منافسة ومقارعة ومطارحة سلمية بينهما من أجل الحصول على الوصول لتأكيد وإثبات مدى ما لدى كل منهما من قدرة مؤهلة وكفاءة متفوقة في تعبيرها عن الإرادة الوطنية والحضارية الغالبة لجماهير المواطنين الشماليين والجنوبيين بصفة عامة، ومدى ما لديهم من رغبة في الحرص على الوحدة الوطنية والحضارية للسودان بناء على الثقة الكاملة والمتكاملة والمكتملة، والقناعة المتبادلة، والمقومات والمرتكزات المتوافرة والمساندة للاستمرار في تدعيمها وترسيخها وتوطيدها وتجذيرها وتطويرها والارتقاء بها كمصلحة حيوية وإستراتيجية وحضارية مشتركة وداعمة للقوة والعزة والمنعة المعتدة ودافعة لإنمائها وازدهارها كسمة وصفة متواصلة ومتميزة في تعبيرها عن إثراء وثراء الوحدة المتنوعة والمتفردة. هذا كما نرى هي الدلالة البعيدة المدى الكامنة في اتفاقية نيفاشا للسلام في السودان بكل ما تنطوي وتشتمل وتحتوي عليه من مغزى بالمعنى الحضاري والإستراتيجي العميق لدى كل من الحركة الشعبية بزعامة ملهمها ومرشدها ورئيسها وقائدها حينها د. جون قرنق من جهة، والسلطة الحاكمة القائمة والراهنة في تعبيرها عن الحركة الإسلامية الحديثة والمعاصرة للنخبة السودانية المدنية والعسكرية المنخرطة والمندرجة فيها بصور ومنطلقات مختلفة ومتباينة وشائكة ومعقدة وفاعلة ومتفاعلة على الجهة والضفة الأخرى للمجرى الوطني والحراك والصراع السياسي والحضاري في المنازعة والمنافسة الحادة والمحتدمة والمتفاقمة والمتصاعدة بحدة بالغة من أجل الهيمنة والسيطرة المنفردة على سدة مقاليد الحكم والسلطة المركزية والحاكمة منذ الاستقلال من الاستعمار الأجنبي البريطاني السابق في بدايات النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين الماضي وما قبله وما بعده في التاريخ الحديث للسودان حتى الآن. بيد أن الذي حدث وجرى على أرض الواقع الفعلي كما هو معلوم، في المرحلة اللاحقة لاتفاقية نيفاشا والشروع في تنفيذها وتطبيقها، هو أن كل من طرفيها قد وجد نفسه عرضة لضغوط وتدخلات خارجية شديدة الوطأة وبالغة الحدة في القوة العاتية، وذلك إضافة إلى مشكلات داخلية صعبة وشائكة ومعقدة جاءت نابعة ومتفجرة ومحتدمة وسافرة وساخنة وناتجة عن ما ظهر وثبت وتأكد فيما يتعلق بالافتقار الذي بدا شاخصاً وبارزاً وماثلاًً وملموساً وواضحاً وصارخاً لدى كل منهما فيما يتصل بمدى ما لديهما من رؤية ثاقبة وثابتة وبصيرة نافذة وإرادة صلبة ويقظة واعية ومتقدة ومدركة للأبعاد الشاملة والكامنة والمحيطة بما تم الإقدام على القيام به، والآثار الهائلة الناجمة عنها والناتجة منها على المستوى الوطني والحضاري الداخلي والأصعدة الأجنبية الإقليمية والدولية المؤثرة والمتأثرة والمتداخلة والمترابطة والمتنافسة والمتزاحمة والمتسابقة في سبيل سعيها للاستفادة من الذي حدث وتوظيفه وتجييره لتحقيق ما ترى أنها مصلحة حيوية وإستراتيجية وحضارية لها. وهكذا فقد انجرف وانحرف طرفا نيفاشا واندفعا إلى الهبوط والسقوط من حافة الهاوية التي سعى كل منهما وزعم وتوهم وظن أن لديه القدرة على المشي عليها وعبورها وتجاوزها والمضي إلى الأمام في تمهيد وتعبيد وتجسير الطريق المفضي والمؤدي والمنتهي إلى تحقيق أهدافه وآماله والمحافظة في نفس الوقت على العلاقة ذات الطابع السلمي والودي مع شريكه في تناغم وتفاهم وانسجام يكون من شأنه أن يفتح المجال للإسهام الإيجابي في ذلك عبر مسار جديد للخروج من المأزق التاريخي للسودان والدخول به في آفق مستقبلي مشرق وملهم وراشد وواعد وناضج. فهل ينجح الحوار الوطني في استخلاص العبرة والدروس المستفادة من هذه التجربة؟