تقرير - هبة محمود مع اقتراب موعده كل عام نحتفي به ونتوقف عنده.. نستحضر مشاهده، نجتر ذكرياته ونحاور شهوداً على عصره... دلالات وعبر تستوقفنا لحظة الاحتفال به، إنه بلا شك عيد الاستقلال، ذاك الحدث الأكبر والأعظم في تاريخ بلادنا... أحداث ومشاهد صاغت أحرفه، ورجال ونساء ساهموا فيه فصاروا جزءاً أصيلاً منه.. نتذكرهم ونحاورهم ونترحم على الأموات منهم ونسرد نضالاتهم كلما حل علينا الأول من يناير من كل عام، وفي أعيننا مشهد زعيمنا الراحل «إسماعيل الأزهري» وهو يسلم الحكومة البريطانية علمها بعد رفع العلم السوداني لأول مرة على سارية القصر الجمهوري بديلا عنه... هذه المشاهد التي ظل يبرزها لنا التلفزيون السوداني كل عام تخليداً لذكرى الاستقلال أضحت خالدة في الأذهان، وهي تحكي لأجيال ما بعد عام 1956 نضال أمة أبت إلا أن تعيش حرة تمتلك سيادتها بنفسها، أمة وضعت حريتها نصب عينيها، فكان لها ما أرادت..(المجهر) في الذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال ترسم بعضاً من ملامح نجوماً صنعوا الاستقلال وساهموا فيه، واضعين لبناته وبصماتهم في تاريخه، وإن كانوا يشكلون غياباً عنا إلا أنهم حاضرون في أذهاننا بكل تفاصيلهم ومواقفهم، فإلى أولى المشاهد... «عبد الرحمن المهدي».. أرض سلاح.. كان شاباً لم تتجاوز سنوات عمره العشرين حينما أدرك بوعيه المبكر أن الوسائل التي اتبعها والده الإمام «المهدي» لتحرير السودان – السيوف، لم تعد تجدي نفعاً، وذلك نظراً لتطور الآلة الحربية بشكل صارت معه المواجهات المسلحة التي تقابل الصدور العارية لا تحقق سوى الاستشهاد .. يعتبر أول بزوغ لنجمه كزعيم سياسي ورجل مال، عقب نهاية الحرب العالمية الأولى حيث كان ضمن الوفد الذي سافر إلى (بريطانيا) بقيادة السيد «علي الميرغني» عام 1919م فكان أصغر أعضاء الوفد سناً، في تلك الزيارة أهدى إليه الملك «جورج الخامس» سيف والده الإمام «محمد أحمد المهدي» رامزاً إلى تركه الجهاد بالسيف الذي دعا له والده .. «إنه السيد عبد الرحمن المهدي» ذاك الرجل الذي عرف بنضاله وكفاحه المستمر ضد الإنجليز، كما عرف أيضاً بلحيته البيضاء وعمامته الشهيرة، لم يلق بالاً لتلك الاتهامات التي طالته بالعمالة للانجليز حيال لجوئه إلى استخدام الوسائل السلمية معهم والتمويه في خطته لينال السودان استقلاله ...أطل إلى الدنيا عام 1885م، ليجد نفسه يتيماً بعد وفاة والده «الإمام محمد أحمد المهدي» زعيم الثورة المهدية في السودان، تعلم القرآن وحفظه في طفولته بالخلاوى، تفتحت مداركه على كيفية نيل الحقوق، وذلك عندما حددت سلطات الاحتلال إقامته الجبرية تحت حراسة مشددة في (الشكابة) و(جزيرة الفيل) لمدة تسع سنوات مع والدته ومن تبقى من أسرة والده عقب معركة كرري عام 1898م، ليجد «عبد الرحمن» نفسه بعد ذلك يقود أسرته وسنوات عمره وقتها دون العشرين عاماً . في عام 1912م سمحت له الإدارة البريطانية في السودان بزراعة القطن في الجزيرة عقب إشادته بإنجازات المستعمر، هذه الزراعة أفادته وأخذت تدر عليه إيرادات كان يصرف منها على أنصاره وأنصار أبيه ويقربهم إليه، حيث قام بلم شمل الأنصار من جديد وعمل على بناء تنظيماتهم الاجتماعية وإشراكهم في المناشط الاقتصادية بمجهوداته بعد تشتيتهم وكسر شوكتهم عقب موقعة كرري الشهيرة التي أعلنت نهاية دولة المهدية المستقلة وبداية العهد الاستعماري الثنائي الذي واجه انتفاضات مهدوية عديدة قمعها المستعمر بوحشية. كان يعتبر نفسه أحد الجنود المدافعين عن بلده، ولذلك لم يتوان في الإجابة حين سُئل من قبل الناظر «سرور رملي» عن موقعه من حزب الأمة الذي تأسس على يديه عام 1945م وعما إذا كان رئيساً له، فأجابه قائلاً: إنني جندي في الصف، ولكن الله سبحانه وتعالى وهبني من الإمكانيات ما لم يتيسر لكثير منكم، وسأهب هذه الإمكانيات ومعها صحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السودان . لقد لعب «عبد الرحمن» دوراً بارزاً في حركة (مؤتمر الخريجين)، ولكن المؤتمر وبعد انتخاباته التي جرت في نوفمبر 1944م سيطرت عليه جماعة الأشقاء التي كانت تتأهب لإصدار قرار من المؤتمر يفسر مذكرة الخريجين بأن مطلب السودانيين القومي هو الاتحاد مع مصر، كما برز حينها اتجاه مصري رسمي قوي بتسوية مسألة السودان بعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمر السلام أو في مفاوضات مصرية - بريطانية.. كل ذلك أدى للتعجيل بإنشاء كيان يعبر عن الرأي السوداني الاستقلالي، وهو حزب الأمة الذي عارض الدعوة إلى الاتحاد مع مصر والدخول تحت التاج المصري .. ظل «عبد الرحمن» يعمل بقوة في سبيل الاستقلال حتى اتفق مع الاتحاديين وتم إعلان الاستقلال في 19 ديسمبر 1955 وتم الجلاء في 1 يناير1956م. «الطقطاقة».. إشعال الحماسة والغناء للاستقلال لا تتهيب المواقف ولا تزعجها المواجهات تجدها في جميع المظاهرات تقف مطالبة كغيرها بسقوط الاستعمار الإنجليزي، فقد كانت على قدر عال من الشجاعة، وعندما يبدأ البوليس في إطلاق قنابله المسيلة للدموع مهاجماً المتظاهرين، كانت هي تحمس الشباب وتحثهم على عدم الهروب، استمدت اسمها جراء احتجاجها على اعتقالها، الذي لم يكن في عينيها إلا نضالاً وبطولة وكفاحاً، حين قال لها ضابط البوليس (كوكس) البريطاني: (إنت كل يوم في مظاهرة جاي طق..طق....طق طق) في إشارة منه للصفقة والهتاف وتحميس المتظاهرين، ومن وقتها عرفت ب»الطقطاقة».. عام 1948م كان ضربة البداية لحواء جاه الرسول الشهيرة بالطقطاقة بالانخراط في العمل السياسي بعد أن تم اعتقالها في مظاهرة عمالية بمدينة عطبرة وبمعيتها الفنان حسن العطبراوي لمدة ثلاثة أشهر، شاركت في جميع المظاهرات التي تنشب في أم درمانوالخرطوم وبحري بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع .. وفي الأول من يناير 1956 وقفت بقامتها الممشوقة تردد بصوتها عاليا (لا تعريفة ولا مليم عاش الشعب مع إسماعين) في باحة القصر الجمهوري عندما بدأ الزعيم «إسماعيل الأزهري» رفع العلم السوداني لأول في تاريخ البلاد لتكون أول امرأة تتغني للاستقلال، رحلت (الطقطاقة) دون سابق إنذار، ودعتنا جسداً لتبقى في داخلنا حباً كبيراً وإرثاً عظيما وأعمالا خالدة ، ذهبت وفي القلب منية الاحتفال معها بعيد الاستقلال كل عام كما عودتنا دائماً حضوراً أنيقاً وصوتاً جميلاً ...عهدناها دوماً تتقدم أوائل الصفوف عند كل عيد وهي ترتدي العلم السوداني بألوانه الثلاثة لتصبح أول امرأة سودانية تتوشح علم بلادها ثوباً يضفي عليها شرفاً يضاف إلى نضالها الوطني... «الميرغني»..التوق للحرية والمناوأة للمهدية ظل السيد «علي محمد عثمان الميرغني» منافساً للسيد «عبد الرحمن المهدي» في مؤتمر الخريجين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، كان لا يقل وطنية وحباً عنه في استقلال السودان عن مصر وبريطانيا، دائماً ما سعى لأن ينال السودان استقلاله، ولكن خشيته من عودة المهدية من جديد في السودان ظلت ملازمة له، لذا سعى للتحالف مع مصر ضد الإنجليز، على النقيض من موقف المهدويين الذين كانوا يؤثرون الاستقلال التام. كان البريطانيون يتخوفون أيضا من احتمال عودة المهدية لحكم السودان من جديد، ويؤيدون موقف «الميرغني» في هذا الصدد، بيد أن خشيتهم من «وحدة وادي النيل» كانت أكبر، لذا صاروا من المؤيدين لرأي السيد عبد الرحمن المهدي في أمر استقلال السودان عن دولتي الحكم الثنائي.. ولد السيد «علي الميرغني» بجزيرة مُسّاوي مركز مروي، بشمال السودان عام 1880 ثم انتقل مع والده إلى مدينة كسلا في شرق السودان. وحينما اضطر والده الهجرة إلى مصر في عهد الثورة المهدية، تركه عند عمه في سواكن، ثم لحق الابن بأبيه وبقي في مصر حيث تلقى علومه الدينية، كان من أبرز القادة الدينيين والسياسيين في السودان خلال القرن العشرين، وراعي طائفة الختمية التي تتسيد السياسة والاقتصاد في شرق السودان. عاش في القاهرة إبان الحكم المهدوي للسودان، وكان من أشد المناوئين له. كما أنه كان، ولعقود طويلة، منافساً صلداً للسيد عبد الرحمن المهدي، سبق له أن تعاون مع البريطانيين في حملة «استعادة» السودان بواسطة الجيش البريطاني- المصري في بدايات القرن العشرين، وكان البريطانيون يعدونه «المتحدث الرئيس» باسم السودانيين ولسان حال الرأي العام في البلاد، توفي السيد «علي الميرغني» في عام 1968م، أي بعد تسعة أعوام من وفاة منافسه السيد «عبد الرحمن المهدي».. وردي.. راية الاستقلال اليوم نرفع راية استقلالنا، ويسطر التاريخ مولد شعبنا.. في مثل هذا اليوم نفتقد وجوده معنا، رحل عنا جسداً، ولكنه ظل بيننا حضوراً قوياً في كل المحافل وخاصة الوطنية منها بنشيده الذي ظل يشدونا به وهو يبعث فينا روح الوطنية والعزة والفخار، كان الأستاذ «محمد وردي» رجلاً وطنياً من الدرجة الأولى تغني للاستقلال وساهم فيه بالكلمة واللحن، ولد عام 1932 في صواردة إحدى قرى شمال السودان والتي تعتبر من أكبر عموديات منطقة السكوت التابعة لولاية دنقلا ، توفي والده وهو في السنة الأولى من عمره ولحقت به والدته، وهو في التاسعة من عمره ليجد نفسه يتيماً وهو في سن مبكرة فشق طريقه وعمل أستاذاً في مدينة شندي من ثم جاء إلى الخرطوم التي كان فيها ميلاده في عام 1958 إمبراطوراً جديداً ألهب السودان بفنه حتى بات فنان أفريقيا الأول... نترحم عليه في ذكرى استقلالنا العطرة، كما نترحم على الشاعر «عبد الواحد عبد الله» ابن القضارف والطالب بكلية الآداب جامعة الخرطوم، الذي كتب نشيد الاستقلال في عام1961 وأعطاه للفنان «محمد وردي» ليسبغ عليه من عظيم ألحانه.