العالم يحتاج إلى أجهزة كثيرة جداً ليكتشف الحقائق وليس نقيضها.. والعالم بحاجة إلى مخترعين جدد لا يبتكرون الصواريخ والطائرات فحسب، وإنما أيضاً مؤهلون لاكتشاف (الدواخل الإنسانية) التي فشلت الدراسات النفسية والاجتماعية في ضبطها ومعرفة حقيقتها. وإذا كان (جهاز كشف الكذب) هو أحد الاختراعات التي استطاع من خلالها الإنسان أن يسبر أغوار النفس البشرية ويعرف إن كانت تصدق أم تكذب، فهذا (الجهاز) المهم والخطير أثبتت الدراسات لاحقاً أنه لا يعطي النتيجة بنسبة مائة بالمائة، وأنه قد يكذب أحياناً..! وهذا التعقيد في معرفة النفوس يدل على أن الإنسان كائن عجيب ومدهش، وهناك بشر يقابلوننا في حياتنا ماهرون على نحو خارق بحيث يستطيعون أن (يكذبوا علينا) عشرات المرات في الدقيقة الواحدة دون أن نكتشف ذلك، أو نشك للحظة واحدة أنهم كذابون.. فهل نحن سذج وأغبياء إلى هذا الحد؟ أم أنهم (ماكرون) أكثر مما تحتمل تصوراتنا وقدراتنا؟! والكذب لا يرتبط بالمحتاجين والمتسولين والمديونين والمتورطين فقط، وإنما هو قيمياً وأخلاقياً ارتبط أيضاً بمن لا يحتاجون إلى أن يكذبوا كالساسة والمسؤولين الكبار والوجهاء وأصحاب الأعمال، وربما أيضاً المهنيون في الصحافة والطب والعلوم والتدريس، وغيرها من جوانب لا تخلو من وجود أشخاص يدمنون الكذب ويجدون من يصدقهم لأنهم فوق الشبهات، ولا يوجد ما يجبرهم على أن يكذبوا.. لينطبق عليهم القول (أنا لا أكذب ولكن أتجمل)..! كأنما (الكذب) هو رصاصة الرحمة التي عبرها فقط يمكن أن تتشظى (الحقيقة) قطعاً ثلجية صغيرة.. ثم تتبخر في الهواء، ليبقى (الكذابون) بأسنانهم الفائقة البياض وسيماهم التي على وجوههم.. هل يعقل أن يكذب هؤلاء؟! وإمعاناً في تحويل العالم إلى (حلف من الكذابين الأقوياء)، ثمة من يخطط ويدبر لتحرير أجندة الكذب وجعلها (قيمة أخلاقية) وليس (سقوطاً قيمياً)، وهؤلاء المتحايلون هم الذين ظلوا يشعلون طقوس الكذب ويحسنّون صورتها فنجحوا في الترويج ل(كذبة أبريل) وسوقوا للكذبة البيضاء.. وتلك البريئة.. وأخرى سموها ب(كذبة تفوت ولا حدش يموت)! وتعالوا نقرأ صفحات الكذب.. (الإعلانات) التي تعرضها وسائل الإعلام معظمها معجون بالكذب.. فهي تسوق لمنتجاتها باعتبارها الأفضل والأقوى والأضمن والأرخص.. ولأن (الصنف) الواحد من هذه المنتجات يعلن بنفس الطريقة.. فكيف لنا أن نعرف أيهما أحق بهذه الصيغة التفاضلية..؟! و(تصريحات) بعض الساسة في العالم يتم إطلاقها بجدية فائقة وبراهين دامغة، ثم بعد ذلك يكتشف العالم كله أنها لم تكن سوى (أكاذيب) و(أضاليل)، وأسطع نماذج هذا الكذب ما ظل يقوله "بوش" عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وعلاقة "صدام" بالإرهاب ليكتشف العالم لاحقاً أن ما قاله "بوش" مدعوماً من وكالة استخباراته لم يكن إلا ذريعة لشن حرب استباقية على العراق!! فهل اعتذر "بوش" أو أعلن توبته واستغفاره عن ممارسته العلنية للكذب؟! وفي حياتنا اليومية يمارس ثلثا البشر الكذب.. في(الموبايل) حين يقولون إنهم موجودون الآن فوق (كوبري المدينة) بينما هم نائمون في بيوتهم أو يتناولون الطعام في قاع المدينة وليس من على فوق أحد جسورها..! وتلك التي صرخت في وجه زوجها ذات مرة وأمرته بأن ينظر إليها في عينيها لتكشف له كم هو كاذب، فما كان منه إلا أن صفعها وأغلق الباب في وجهها في اعتراف ضمني بأنه زوج كاذب..! لكن هل هم حقاً، إن كانت تلك الزوجة أو غيرها، يمتازون بحاسة كشف الكذب من خلال قراءة العيون؟! يقولون إن العيون تفضح صاحبها.. ومن يكذبون لا تثبت نظراتهم.. ولا يستطيعون التحديق طويلاً فيمن يتحدثون إليهم.. لأنهم يكذبون.. لماذا إذاً تخوننا هذه الحاسة ونقع ضحايا للكذب؟! المؤكد أن استمراء الكذب يبطل مفعول هذه الحاسة، ويجعل من الصعب معرفة حقيقة الآخرين في ظل وجود تلك الأقنعة السميكة والخبرة الكافية بفنون إيهام الآخرين بأن الذين يقفون أمامهم هم آخر من يمارسون الكذب.. وهؤلاء لو جلسوا على كرسي جهاز كشف الكذب لجاءت النتيجة (بوزيتيف) ونالوا (البراءة) مع حقهم القانوني في الاعتذار وربما التعويض..! ومناسبة كل هذا التقصي في عوالم الكذب هو الاختراع الجديد الذي يشتغل عليه (اليابانيون) والذين يراهنون عليه في (كشف الكذب) وهو جهاز يمكن ارتداؤه كالخاتم في الأصبع.. وبمجرد أن يتعرض صاحبه لحالة كذب يصدر هذا (الخاتم) رنيناً اهتزازياً وينبه إلى أن الشخص الذي يتحدث هو كاذب!! (الاختراع) لم أقرأ أو أسمع عنه.. وإنما هو رؤية استشرافية قد تتحقق يوماً.. لأن أجهزة الكذب القديمة كبيرة الحجم وباهظة الثمن وأعدادها محدودة وتوجد فقط في مراكز الشرطة والتحقيقات.. أما (الخواتم) فيمكن أن يقتنيها كل البشر.. وتستطيع أن تقابل الزيادة الماكوكية في حالات الكذب المتفشية في العالم. حقاً كل واحد منا في حاجة إلى (خاتم) لكشف الكذب وما أكثره..!