اختفت الافتتاحيات من الصحف، لتفقد التقاليد الصحفية العريقة .. احدى سماتها التي استمرت عقودا طويلة من الزمان ! الافتتاحية عمل صحفي باهر .. يتجاوز في العادة الرؤية الشخصية، إلى رأي خارج من الضمير الأشمل .. ضمير الأمة، وهو بمثابة الحكيم .. الذي يعالج الجراحات بإزالة الأنسجة الميتة حينا، وبالتضميد حينا آخر .. ليصل إلى أحسن حالة استشفاء ممكنة . ما يحدث في الصحافة الحديثة الآن، هو أن الصحف تتولى التعبير عن رأيها من خلال كتابات قادتها، وهو أمر قد يتوافق في مظهره مع المنطق، فرؤساء التحرير وقادة العمل الصحفي في الصحيفة .. هم من يترجمون الخط الإعلامي لصحيفتهم، وهم أيضا من يحافظون على مسار الصحيفة، بحيث لا تحيد عن الموجهات العامة التي تحكم العملية الصحفية في شكلها العام، أو في أهدافها الخاصة . لكن هذا الكلام لا يمكن أخذه على علاته، فرؤساء التحرير، وقادة العمل التحريري في الصحف، وأقصد الصحف ذات التوجه القومي، هم في الأساس أصحاب خلفيات سياسية وثقافية شديدة التنوع، ولهم رؤاهم المختلفة في مسائل الشأن الوطني ومعالجاته، ولذلك يصعب أن نقول بأن آراء قادة الصحيفة تعبر بدقة عن التوجه العام للصحيفة، خصوصا وأن الصحيفة تصبح مع الممارسة كائنا مستقلا .. لا يمكن مزجه بالكامل في شخصية قياداتها . طبعا الأدلة على كلامنا كثيرة، فكل الصحف الناجحة تحريريا الآن .. تضم بين جنباتها أقلاما ليست بالضرورة على اتفاق سياسي مع بعضها البعض، بل وقد تكون مستقلة ومختلفة عن القناعات السياسية لرئيس التحرير أو للناشر، ومع ذلك يمارس قادة التحرير ديمقراطية داخلية في صحفهم، ويفتحون لتلك الأقلام الأبواب، ويرصدون لها المكافآت السخية، اقتناعا بأن التباين يضفي على الصحيفة قوة، وإقرارا بأن القارئ ليس كائنا شمعيا .. لكنه انسان يتطلع للتنوع والتباين في الطرح .. ليصل إلى قناعاته الشخصية المستقلة بعد ذلك. من تلك الرؤية ، يصبح من السهولة ملاحظة أن الصحيفة الحديثة أضحت تضم تيارات متعددة من الرؤى، وأن مساحات التباين بينها أصبحت أكثر رحابة، رغم أن ما يضم الجميع هو توجه واحد، هو تقديم خدمة صحفية متميزة ومتنوعة، خطبا لود القارئ، وتدليلا لتوجهاته ومزاجه ! لكن الصحيفة مع ذلك تبقى مستقلة في ذاتها، بمعنى أنها تبدأ في تكوين شخصيتها غير المتماهية في شخصية قياداتها، وبالتالي فإن افتتاحيتها في رأيي تظل رأيا مستقلا عن رأي رئيس تحريرها، أو ناشرها، لتتوخى أهدافا عليا، لا تتأثر بالقناعات والخلفيات الفكرية والسياسية لقادتها .. والتي يعبرون عنها في العادة من خلال أعمدتهم وكتاباتهم في الصحيفة . ولأن صويحبكم من المدرسة القديمة للصحافة، فقد عايشتُ تجارب عملية في هذا المجال، ورأيت كيف أن الصحيفة قد تضم رأيا صحفيا ساخنا لرئيس تحريرها في جهة، في حين تضم رأيا هادئا ومتعمقا تنسبه لاسمها في جهة أخرى، ويتم نشره باعتباره رأيا للصحيفة .. وليس رأيا لرئيس تحريرها . أظن أن افتتاحيات الصحف تبخرت لأنها لا ترجع لكاتبها بالحق الأدبي، فهي تنشر باسم الصحيفة، ولذلك فإنها لن تعود .. إلا إذا توفرت القناعة، ورصدت الصحف عائدات سخية لكتابة الافتتاحية .. يوازي ضياع الحق الأدبي لكاتبها.