أذكر جيدا انني كنت مولعا بالقراءة والمطالعة، وكان أكثر ما يشوقني لاستقبال القادمين الى جزيرة بدين من البنادر (المدن)، أنهم كانوا يلفون أحذيتهم قبل وضعها في الحقائب بالجرائد، وكنت احرص على التقاط تلك الجرائد أثناء قيامهم بتفريغ محتويات حقائبهم، وكانت الجريدة المضمخة بعطر المركوب الفاشري (المركوب عند الليبيين هو أداة النقل من سيارات وغيرها، بينما تطلق الكلمة عندنا على الحذاء المصنوع يدويا من الجلد، واشتهرت منطقة كوستي - وهي وطني الثاني بعد بدين - بمركوب \"الجزيرة\" وكان ما يميزه أنه كان بلا يمين او شمال يعني أي فردة تصلح لأي قدم).. المهم كانت الجريدة المعطرة بأريج ذلك المركوب وجزم باتا المصنوعة من القماش، عندي بمثابة منتجات إيف سان لوران في عصرنا الحالي. واقع الأمر هو أن معظم ابناء وبنات جيلي كانوا مولعين بالقراءة، لأن المناهج المدرسية التي كانت تتعرض في معهد \"بخت الرضا\" للغربلة والتجريب والتنقيح كانت تشجع على ذلك، وفي المدرسة الابتدائية كانت هناك حصص المطالعة، وحصص الانشاء وحصص \"الموضوعات\" التي تسمح لك بحرية التعبير حول مختلف الشؤون \"المحلية\"، وكانت هناك المدونة الشهرية التي كنا نسجل فيها ملاحظاتنا حول المتغيرات البيئية (لم تكن كلمة بيئة قد دخلت القاموس وقتها): شاهدت اليوم طائر الشُكشوكي واسمه بالعربية الهدهد الذي يظهر عادة مع قدوم الشتاء.. النخلة التي في بيتنا بدأت بطرح الثمار وهو أمر غير مألوف في شهر نوفمبر، مما يعني ان ثمارها ستكون \"بَكة\" اي بدون نواة او طعم!! وكانت بالمدارس الابتدائية مكتبات بها كتب كامل كيلاني وجورجي زيدان والمنفلوطي، أما المدارس المتوسطة فقد كانت مكتباتها عامرة الى جانب كتب طه حسين والعقاد وغيرهما بالروايات الانجليزية الكلاسيكية: بلاك أرو، ومونفليت ولورنا دون، وتوم براونز سكول دايز، وديفيد كوبرفيلد، وبتشجيع من استاذي محمد بشير الأحمدي (من بربر) وكان ثاني ناظر لمدرسة البرقيق الوسطى، واستلم الراية من مؤسس المدرسة المربي الفاضل النبيل مدني محمد عبدالماجد، وهو من بيت المال بأم درمان، وكان يناديني \"عموش\" بسبب معاناتي من ضعف النظر.. بتشجيع منه قرأت كل الكتب الانجليزية والعربية في مكتبة المدرسة، فصار يعيرني كتبا من مكتبته الخاصة، بل وعندما لمس عندي حبا للشعر أهداني دواوين ايليا ابو ماضي، فتوهمت انني قادر على كتابة الشعر وكتبت قصيدتي العصماء المشهورة: من نارك يا جافي/ أنا طالب المطافي.. والتي بسببها جلدني الاستاذ حجر مدرس اللغة العربية وعلوم الدين بأعواد الجوافة وجعلني أكتب تعهدا بعدم زيادة سطر على تلك \"القصيدة\". قال لي مدرس ذهب ذات مرة الى جامعة يابانية في دورة دراسية (كورس) إنه فوجئ ان جانبا من المحاضرات مخصص لدراسة تجربة معهد بخت الرضا، و\"طلع صاحبنا فيها\" عندما أخبر القائمين على أمر كلية التربية في تلك الجامعة إنه نال التدريب عدة مرات هناك.. والشاهد هو أنه كانت للمعهد شنة ورنة، لأنه كان يقوم على دعائم تربوية محضة، وكان الكتاب المدرسي يخضع للتجريب والتطوير والحذف والاضافة على مدى عدة سنوات قبل إقراره وتوزيعه، وكانت المناهج - بالتالي - تتسم بالثبات والاستقرار، لأنها كانت خالصة لوجه التربية والتعليم، وخالية من \"الأدلجة\"، ولا تهدف الى غرس مفاهيم الفكر السياسي الحكومي في عقول الطلاب.. وكان للنشاط اللاصفي extra curricular نصيب كبير في حياة الطلاب، كنا مثلا نقضي جانبا كبيرا من حصص الجغرافيا ونحن في فناء المدرسة نبني نماذج للبلدان او الأنشطة التي ندرسها، وكانت في المدارس الابتدائية حصص للفلاحة، وكان هذا يفسر لماذا تحرص كل مدرسة على ان تكون بها حديقة جميلة، وفي مساء كل يوم اثنين كانت هناك الجمعية الأدبية، حيث تجد المواهب الواعدة فرصتها لتلمس طريقها. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]