من أهم إنجازاتي التربوية، أنني نجحت في حرمان جميع عيالي من المشروبات الساخنة، وخاصة الشاي والقهوة، فليس بينهم من يشرب أيا من تلك الأشياء في الصباح أو الظهر أو المساء.. كان هدفي من ذلك هو تجنيبهم أي شيء يؤدي إلى اي درجة من «الاعتياد» ف Habituation الذي هو درجة «خفيفة» من الإدمان، فقد نشأت وكبرت عبدا لعادات من بينها عدم القدرة على الكلام والتصرف في الصباح، ما لم أشرب كوبا من الشاي من العيار الذي كنا نسميه الشُب، وهو الكوب الزجاجي الطويل.. ومن بينها التدخين الذي ما زال الحنين إليه يشدني فأجد نفسي أدخن سيجارة مرة كل بضعة أشهر من وراء ظهر عيالي، الذين غرست في عقولهم أن التدخين نشاط هدام، وكان لهم الفضل في حملي على الإقلاع عن التدخين «كمحترف»، وقد كنت أدخن نحو ستين سيجارة في اليوم، وقد كتبت مرارا عن ذلك اليوم الذي استوقفني فيه رجل لبناني في مطار جدة ورفع معنوياتي بكلام حلو عن إعجابه بمقالاتي، ثم قدم لي سيجارة فتناولتها وأشعلتها وبينما يدي تتدلى والسيجارة بين أصابعي، إذا بطفل ينتزعها مني ويلقي بها أرضا ويهرسها بحذائه وهو ينظر إلي باحتقار، وكاد اللبناني ان يجن من برودة تصرفي إزاء مسلك ذلك الطفل «الوقح»، لأن وجهي اكتسى ابتسامة ذليلة، بدلا من التكشيرة، ولم يبدر مني اي رد فعل ينم عن الضيق لمسلك الطفل، بينما شرع صاحبي في التحدث عن سوء أدب أطفال آخر الزمن «لأن أهلهم يتركونهم يفعلون ما يشاءون ولا يعلمونهم السلوك القويم.. وبكل هدوء شرحت لصاحبي اللبناني ان ذلك الطفل هو ولدي لؤي، الذي عاهدته على عدم استخدام التبغ، وأنه عاقبني على التنصل من ذلك العهد.. ولكن اللبناني قاطعني: بس مو هيك قدام الناس.. ولكنني قاطعته بدوري قائلا ان لؤي شهد حقبة كنت فيها أحسب أن التوقف عن التدخين سيؤدي إلى هلاكي ثم عايشني سنوات ورأى أن الإقلاع عن التدخين عاد علي بنتائج صحية إيجابيه، وأنه فعل ما فعل من فرط حبه لي ولأنه يريد مصلحتي.. وكونه انتزع السيجارة من يدي «هيك قدام الناس»، ينبغي أن يجعل الناس يحترمونه ولا ينظرون إليه ك «قليل أدب».. وقف اللبناني مذهولا لبعض الوقت ثم نادى لؤي الذي كان قد ابتعد عنا، وقدم له علبة سجائره كاملة وقال له: خد ارميها في الزبالة، ونفذ لؤي الأوامر وهو في منتهى السعادة، فقد اطمأن قلبه إلى أن الرجل الذي «أفسد أخلاق» أبيه قد أحس بالذنب وسعى إلى «التكفير» بالتخلص من ما معه من سجائر... ولكنني أقوم بين الحين والآخر بتقييم بعض تصرفات عيالي وأعجب: هل أنا أب ضعيف لأن عيالي ينتقدونني بين الحين والآخر؟ أم أنني أب ديمقراطي، يسمح لعياله بهامش كبير من حرية التعبير طالما انهم يلتزمون بآداب التخاطب والنقد؟ الإجابة لا تهمني كثيرا لأن انتقادهم لي لا يغضبني حتى ولو ضايقني، لأنني أعرف أنهم يحبونني ويريدون لي الخير.. بل ان كبرى بناتي وهي الأكثر حرصا على قراءة مقالاتي تأتيني أحيانا بوجه عابس حاملة الصحيفة وتقول: ده شنو يا بابا؟ وتكون عندها مستاءة من استخدامي مفردة أو عبارة معينة.. وبعد جدل يطول او يقصر تنهي كلامها بعبارة مثل: دا كلام سخيف.. ما تعمل كده تاني.. ولكنني «أعملها». جعفر عباس [email protected]