هل ثمة نظام دولي بديل يتشكل فعلا؟ّ!    ساردية يحقق فوزاً ودياً ويؤكد جاهزيته لدوري شندي المحلي    الشعلة والنصر في نهائي كأس السودان برفاعة    (انسوا الدوري الرواندي)    خبير عسكري يطلق التحذير من خطر محدق جديد في السودان    السودان يعلن وصول شحنة من هولندا    تقرير عن معارك درع السودان بمحاور كردفان    فوز قاتل ضد الإمارات يقود العراق إلى الملحق العالمي بتصفيات المونديال    فريق ميداني متخصص من إدارة مباحث ولاية كسلا يسدد بلاغ خاص بسرقة عربة بوكس    الجيش السوداني ليس في سباق مع أي جهة    الذكاء الاصطناعى وإرضاء الزبون!    زي جديد تريعة البجا جبل اولياء    انسحابات للجيش في مناطق بالسودان..خبير عسكري يكشف تفاصيل    حملة بقيادة القائد محمد نور جربو وقادة منطقة الكدرو العسكرية    ابراهيم شقلاوي يكتب: المكتبة الوطنية .. جدلية الحرب والوعي    قناة الجزيرة ... من يختار الضيوف ولماذا … ؟    بنزيما متردد بشأن مستقبله مع الاتحاد    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان الصاعد "يوسف مدني" يواصل إبداعه في تقليد المطربة إنصاف مدني بأغنية "الزول دا ما دايره"    شاهد بالفيديو.. أحد أقارب الممثل مؤيد جمال يفتح النار على الكوميديان عوض شكسبير ويتهمه بإرسال جنجويد لمؤيد من أجل تهديده والتحقيق معه    بالصورة.. صحيفة "الغارديان" البريطانية تهاجم القيادي بمليشيا الدعم السريع "الربيع عبد المنعم" وتؤكد حذف حساباته على منصات التواصل الاجتماعي    شاهد.. ناشطة الدعم السريع الشهيرة "أم أشواق" تنهار من البكاء وتعلن تخليها عن "القضية" ومساندة المليشيا    "خسرنا بالسحر".. مدرب نيجيريا يتهم الكونغو بممارسة "الفودو"    إسرائيل تكشف رسميا عن خطتها على حدود مصر    خالد عمر: تصريحات وزير الخارجية الأمريكي لا تتعارض مع "الرباعية"    شبح شفاف.. مفترق بين الترقب والتأمل    روسيا.. سجن إماراتي 6 سنوات بتهمة محاولة تهريب صقور مهددة بالانقراض    زيدان يقترب من تحقيق حلمه    الأولى منذ 7 سنوات.. محمد بن سليمان إلى واشنطن    أمم إفريقيا أول خطوات ليفربول لإبعاد صلاح    شاهد.. "القروش بتخلي البني آدم سمح".. جمهور مواقع التواصل بالسودان يواصل سخريته من المذيعة تسابيح خاطر بنشر صور قديمة لها قبل ظهورها في الإعلام    شاهد بالفيديو.. الفنان المصري سعد الصغير يثير غضب السودانيين أثناء ترحيبه بالفنانة "مونيكا": (أنا أعرف أن السوداني لازم يبقى أسود أو أسمر لكن من السودان وبيضاء أزاي مش عارف!!)    ضربة روسية قوية بصواريخ كينجال على مواقع عسكرية حساسة في أوكرانيا    الالعاب الإلكترونية… مستقبل الشباب في العصر الرقمي    الطاهر ساتي يكتب: مناخ الجرائم ..!!    إظلام جديد في السودان    تحذير من استخدام الآلات في حفر آبار السايفون ومزوالة نشاط كمائن الطوب    الطاهر ساتي يكتب: أو للتواطؤ ..!!    والي الخرطوم يعلن عن تمديد فترة تخفيض رسوم ترخيص المركبات ورخص القيادة بنسبة 50٪ لمدة أسبوع كامل بالمجمع    اتحاد أصحاب العمل يقترح إنشاء صندوق لتحريك عجلة الاقتصاد    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكر د. عبد الوهاب الأفندي :تجربة الإسلاميين ألحقت ضرراً بالإسلام يصعُب إصلاحه
نشر في النيلين يوم 27 - 03 - 2017

الإسلاميون أصبحوا أسرى تجربتهم الفاشلة ولا يريدون الاستفادة من الأخطاء
لا أتحسّر على الماضي والسودان مقبل على كارثة
ما زلتُ إسلامياً ووجدتُ في أوروبا ما لم أجده في بلادي
علي عثمان اتصل بي معتذراً عن سفاسف تفوّه بها بعض الإخوة في حقي
تحوَّلت من الفلسفة إلى العلوم السياسية لأقترب من الواقع
لم أجد من المسؤولين إلا الاحترام رغم ما يبدر من سفهائهم بين حين وآخر
يحمل شخصية وصفة السياسي والمفكر، وصاحب خلفية إسلامية برغم اختلافه المبكر مع شكل وسلوك النظام الإسلامي الذي ما يزال حاكماً ل(السودان) منذ ما يزيد عن ربع قرن.
دكتور عبد الوهاب الأفندي المحلل السياسي والإعلامي في كل من الجامعات البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية، (الصيحة) بدورها قامت بإجراء مقابلة صحفية مع الأفندي حول مجمل تطورات الأوضاع الداخلية والخارجية وحصاد التجربة الإسلامية في حكم السودان من منظور شخصية المفكر والباحث السياسي وخرجت بهذه الإفادات.
حوار: الهضيبي يس
أين هو عبد الوهاب الأفندي مما يجري في المجتمع السوداني؟
يبدو أنه سؤال ملغَّم من ظاهره، كأنه يفترض “غربة” عن الواقع السوداني أو بعداً أو تباعداً. وفي الحقيقة من الصعب على أي سوداني أن يبتعد عن واقع الوطن، أو ينجو من التأثر به. وفوق ذلك، هناك فريضة الاهتمام بأمر الأمة. فلا يعقل أن نسهر بسبب مصائب إخوة لنا في فلسطين والعراق وسوريا وميانمار وغيرها، ولا نكون مهمومين بشأن أهلنا، فنتابع، ونتألم، ونحلل، ونحاور، ونجتهد في النصح وطرح الآراء والمقترحات على الرأي العام، عسى ولعل.
وفي هذه الفترة الحرجة من تاريخ بلادنا، لا بد أن يساهم كل بما يستطيع، وألا يتأخر في ذلك. وقد أصبحت لا أحبذ ما يكثر منه السودانيون هذه الأيام من إسراف في النقاش السفسطائي، الذي أصبح أشبه بجلسات تخزين القات أو معاقرة المخدرات، يلوك فيها الناس مساوئ النظام ومصائب البلاد، ويكثرون التحسر على ما وصل إليه الحال، ثم ينصرفون كمن حقق إنجازاً. فما تحتاجه البلاد هو المبادرات العملية للانطلاق إلى الأمام.
هل ما تزال صاحب اهتمامات سياسية؟
كما قلنا إن من لم يهتم بأمر الأمة فليس منها، نعوذ بالله من ذلك. ومهما يكن فإن تدريس العلوم السياسية، والاشتغال بالكتابة والمساهمات الإعلامية في الشأن العام تجعل من المستحيل ألا تكون لدى صاحبها اهتمامات سياسية. وكنت قد حوّلت تخصصي من الفلسفة إلى العلوم السياسية تحديداً لأنني رأيت ضرورة الاقتراب من الواقع أكثر. ولأن سفينة الوطن ظلت طوال حياتنا تُبحر في مياه مضطربة، فلم يكن ممكناً تجنّب السياسة، حتى لو أراد المرء. وكنت قد عبرت عن هذا الواقع في مقدمة كتابي “الثورة والإصلاح السياسي في السودان” 1995، حيث قلت إنه لا خيار عند من يجد نفسه في سفينة تواجه خطر الغرق إلا أن يكون ملاحاً، يساعد ما أمكنه في إنقاذها، وإلا كان من الغارقين. ولكن اهتماماتنا السياسية هي هم وطني، ولا تعني الارتباط بحزب بعينه، لأنه للأسف ليس هناك حزب قائم يناسبنا، وليس لدينا الوقت للاشتغال بتكوين الأحزاب، فهناك ما هو أهم من المشاغل، وأبقى أثراً من الأعمال.
ماذا عن تأثير الغربة في شخصيتك؟
تعبير الغربة والاغتراب لم يعد له معنى في عصرنا هذا الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وكثيراً ما تصلنا فيه أنباء الوطن قبل أن تصل كثيراً ممن يسكنه. ونحن لا نكاد نغيب عن أرض الوطن، كما لا تغيب عنا همومه. وفي حقيقة الأمر لم أشعر يوماً بأنني في غربة. وأذكر أنني قلت لأحد الإخوة في ندوة عُقدت لمناقشة كتابي السالف ذكره إن الاغتراب قد لا يكون بالسفر. فقد انتقد صاحبنا وقتها ما ورد عن أحوال البلاد في الكتاب بأنه غير دقيق لأنني “كنت بعيداً” عن الوطن كما قال، فقلت له إنني ربما كنتُ أعيش خارج البلاد، ولكنني عندما أستمع إليكم، يخيل لي أنكم تعيشون في المريخ. فكم من ساكن قصر في الخرطوم لا يعلم شيئاً عن حال سكان أحيائها الفقيرة، حتى من يكون منهم على مرمى حجر من قصره.
من كتاباتك تبدو متحسراً على الماضي؟
لا أتحسر على الماضي، ولكن أتألم للحاضر، ونتأسف لنقص القادرين على التمام، ومن حمل رسالة سامية، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وصار غاية همه منصب يتمسك به، أو منفعة يلقاها. نتمنى أن يؤدي من تولوا الأمر غصباً عن أهله أدنى واجبهم. فليس هناك ماضٍ متألق نحِنُّ إليه، ولكن الحاضر أحياناً يجعل البعض يرى في الماضي إشراقاً لم يكن فيه. وكثيرون يحنّون هذه الأيام لعهد عبود، وحتى عهد النميري.
صحيح أننا في بعض كتاباتنا، خاصة حين نرثي أصدقاء رحلوا، نتذكر اللحظات الجميلة التي جمعتنا بهم، ونحن إلى أيام كان أكثر من نعرف متجردين من الغرض، ومتمسكين بالمثل والفضائل. لقد مرت علينا أيام كنا طلاباً لا نملك من الدنيا شيئاً، ولا يستهوينا منها شيء، وكان التنافس على مهام قد تعرض الإنسان لخطر السجن أو ما هو أسوأ. وكانت القلوب صافية والنيات طيبة. ولكنا فقدنا معظم هؤلاء، ليس لأنهم رحلوا عن الفانية، ومنهم من فعل، ولكن لأنهم رحلوا في الفانية، فلم نعد نعرفهم.
هل ما زلت إسلامياً وتؤمن بفكرة الإسلاميين؟
لستُ ممن يهتم بمثل هذه التصنيفات، ولكن خلافنا مع إخوة الماضي ليس لأنهم تمسكوا بالإسلام وانصرفنا عنه، بل بالعكس. ما رفضناه ونرفضه هو الانحراف عن قيم الإسلام، والصد عن سبيل الله بربط الانتماء الإسلامي بالفساد والاستبداد وممارسات هي نقيض الدين وما أمر به الله ورسوله. فليس هناك بديل لأي مسلم عن التمسك بأوامر الدين ونواهيه، والدعوة المستمرة لذلك. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للنفس وللغير من هو سمات هذه الأمة، وهو ما يعرفها. وإن كان بعض من صحبنا فيما مضى يرى هذه الأيام في تذكيره بواجباته الدينية تعدياً و”معارضة”. ونرجو من الله ألا يتوفانا إلا ونحن من المؤمنين العاملين، وأن نكون ممن ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ونبرأ إليه من كل انحراف ونستغفره لكل إثم وتقصير.
كيف تنظر إلى الإسلاميين يقترب من الثلاثين عاماً؟
أعتقد أن هذه التجربة قد أضرت بالإسلام ضرراً قد يصعب إصلاحه، وأكاد أقول إنها مثلت جريمة في حق الإسلام والمسلمين. وقد يحتاج الأمر إلى عقود قبل إصلاح هذا الخلل. لم يكتف من يسمون نفسهم الإسلاميين بتضييع فرصة قد لا تتكرر، ولكنهم ضيعوا على من بعدهم، وعلى أجيال قادمة، تماماً كما شوهت داعش الإسلام ونفرت الناس منه. أعتقد أن أول كفارة لهذا الفعل هو أن يعترف هؤلاء بأن بينهم وبين الإسلام بعد المشرقين، وأن يعيدوا السلطة إلى أهلها، ويقضوا ما بقي من حياتهم في الاستغفار والتوبة ورد الحقوق إلى أهلها، عسى ولعل.
هل صحيح أن الظلم دفعك لمغادرة محطة الإسلاميين؟
أولاً، بحسب اعتقادي، فهو أنني الباقي في محطة الإسلام والتمسك به، وأن الآخرين هم من غادر.
ثانياً، بحمد الله لم يلحق بي أي ظلم شخصي في أي وقت من الأوقات. بالعكس، لم أجد من الإخوة المسؤولين إلا الحفاوة والاحترام، رغم ما يبدر من سفهائهم بين حين وآخر. وأذكر أن الأخ علي عثمان اتصل بي شخصياً من نيويورك يعتذر عما تفوَّه به بعض الإخوة من سفاسف في حقي. وقد جاءت كل هذه الاتهامات الباطلة بسبب ما ورد في كتابي من آراء قصد منها الإصلاح، والإنذار المبكر من خلل رأينا نذره وخشينا مآله. وللأسف تحقق ما خشيناه، بل وقع ما هو أسوأ. ولعل المفارقة هي أن كلا طرفي المفاصلة أتاني في مطلع هذه الألفية ليقول إنه الآن وصل إلى قناعة بأن ما قلته كان حقاً، وأنهم يجتهدون في تنفيذ ما أوصيت به. والأطرف من ذلك هو أن هذا وقع خلال شهر واحد، وأطرف من الأطرف أن من عبر عن هذا -وبعضهم ما يزال يتولى مناصب رفيعة في الدولة- كان ممن تولى كبر الانتقاد في حقي. وكان ردي حينها أن النصائح التي تقدمت بها كان قد فات أوانها، كما عبرت عن استغرابي أن يكون كلا الطرفين يطبق ما ناديت به في حين كانا في حالة احتراب. وقلت إن الأولى أن توقفوا احترابكم.
وماهي نتيجة الأمر؟
وخلاصة الأمر هو أنني عندما تقدمت باستقالتي من وزارة الخارجية، ورفضت كل عروض وصلتني بمناصب بديلة، كان الغرض هو الحفاظ على صدقية الحركة الإسلامية. فقد كنا ننادي في ما كتبنا بتوافق الإسلام والديمقراطية، وأن الإسلام هو دين الحريات وكرامة الإنسان. وكنا نواجه أسئلة محرجة حول ما كنا ننادي به – وكان الشيخ الترابي سباقاً في ذلك- وبين ممارسات تناقض ما نقول. أذكر أنني شاركت في عام 1993 في ندوة حول حقوق الإنسان في الإسلام في جامعة أمريكية، فتحول كل المؤتمر إلى نقاش حول سجل حقوق الإنسان في السودان. وقبل ذلك كنت قد نشرت كتابي “من يحتاج الدولة الإسلامية” في عام 1991، ومقالات أخرى في مجلات وصحف حول نفس الموضوع، فكان السؤال يتكرر: ما علاقة ما تقول بما تمارسه حكومتكم؟
وكانت أصواتنا قد بُحَّت ونحن نطالب الإخوة بألا يكونوا ممن يقولون ما لا يفعلون، وهو ما كبر مقتاً عند الله كما جاء في صحيح التنزيل. ولكنهم فضلوا ما هم فيه، ولم يتركوا لنا خياراً سوى البراءة إلى الله من منكر لم نستطع تغييره باللسان.
هل هناك أخطاء تود تصحيحها وأمور ندمت عليها؟
قد أسرفنا على أنفسنا في أمور كثيرة، نستغفر الله منها. ولعل هذه مناسبة للاعتذار لكل من قسونا عليه، بالحق أو بالباطل، وكذلك لنعتذر للأمة عن مسؤوليتنا الجماعية في ما آلت إليه الأحوال. من ناحية شخصية، عندما طُلب مني الالتحاق بالعمل الدبلوماسي في مطلع عهد الإنقاذ، واجهت معارضة شديدة من أسرتي الصغيرة. فقد كنت فرغت لتوي من إنجاز رسالة الدكتوراه، والتحقت بالعمل الأكاديمي في جامعة أكسفورد. وكانت الأسرة قد عانت لأنني كنت أنجز دراساتي العليا بينما كنت أعمل بدوام كامل. فقيل لي الآن وبعد أن بدأت أمورنا تستقر، تريد أن تقلب حياتنا رأساً على عقب؟ ولكنني ركبت رأسي، وقلت لهم إنما نحن جنود، ننفذ ما يُطلب منا. وعندما وقع ما وقع، واضطررت للانسحاب، قالت زوجتي: ألم أقل لك؟ وقد أدركت حكمتها بعد فوات الأوان. ومع ذلك فقد كانت تجربة تستحق الخوض، فقد ساهمنا في أمور كثيرة، عادت في النفع على البلاد في نهاية المطاف، منها مفاوضات أبوجا ونيروبي. وقد استمرت مساهمتي في هذا المجال بعد استقالتي، حيث ظللتُ أشارك متطوعاً أو كخبير في مفاوضات السلام حتى مطلع الألفية. وبعد اتفاقية السلام، اجتهدنا ما استطعنا في إنجاحها، وكذلك في دعم جهود الحل في دارفور، إما بصفتنا الشخصية، أو مشاركة مع إخوة آخرين من الجنوب والشمال، أو في إطار الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى. وعليه فربما نكون قد أجحفنا في حق النفس والأسرة، ولكننا خدمنا الوطن، واجتهدنا ما استطعنا في ما رأيناه يصلح البلاد والعباد، ويخدم الدين.
عن ماذا يبحث الأفندي في أوروبا؟
أولاً، أنا لستُ في أوروبا الآن، ولكن الأرض كلها أرض الله. ونحن لم نهاجر إلى أوروبا طائعين، ولكنا وجدنا فيها من التكريم ما لم نجده في بلادنا للأسف. فالأكاديمي يجد في الغرب الاحترام والتقدير، وكل ما يحتاجه حتى ينجز مهامه من تدريس وبحث، وإذا قصر فلا يلومن إلا نفسه. وقد قلت لأحد الإخوة ممن كان يندبني في كل مرة للعودة إلى البلاد، إنني في وظيفة أتلقى فيها أجراً كي أفكر، وكفى بها نعمة. فنحن حضرنا إلى أوروبا من أجل العلم. وكنتُ قد أنجزت دراساتي العليا في أوروبا على حسابي الخاص. وأذكر أنني سافرت إلى السودان في نفس يوم التخرج، حيث تسلمت شهادتي في الظهر، وسافرت مساء اليوم للعمرة ومنها للخرطوم. وكان ذلك في السادس عشر من ديسمبر 1989. وكنت مع الأخ حسن مكي أول من التقى الشيخ الترابي من خارج حلقة السلطة الضيقة بعد خروجه من السجن. وندبت وقتها للتخلي عن عملي الإعلامي والجامعي والالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وقد فعلت. وعندما وقع الخلاف، عدتُ إلى عملي الجامعي. فهدفنا الأول هو طلب رضى المولى، ووسيلتنا لذلك أن نكون ممن تعلم العلم وعلَّمه.
هل بقي للإسلاميين مفكرون بعد رحيل الترابي؟
أذكر أنني عندما كنتُ أعد رسالة الدكتوراه عن الحركة الإسلامية في ثمانينات القرن الماضي، بحثتُ عن إنتاج الحركة الفكري فلم أجد شيئاً سوى بضع محاضرات وأوراق متناثرة للشيخ الترابي. وكان كتاباه “الصلاة عماد الدين” و”الإيمان وأثره في حياة الإنسان” مادة لا بأس بها، ولكنهما كانا غاية في التجريد النظري. وقد كان الوضع نفسه لبقية الأحزاب، وللحزب الشيوعي كتابان، آخرهما تقرير المؤتمر الرابع الذي عقد عام 1967، الاستثناء كان الجمهوريون وإلى درجة أقل حزب الأمة. وعليه اضطررت إلى ملء الفراغ بالبحث في الصحف وإجراء المقابلات. وفي نظري أن الوضع لم يتغير كثيراً، وأن مجال الفكر لا يزال مهجوراً في السودان عامة وعند الإسلاميين خاصة. والأسوأ من ذلك، فإن الإسلاميين أصبحوا أسرى تجربتهم الفاشلة، يجترونها في كتاباتهم وحواراتهم، دون أن يتعلموا منها شيئاً، لرفضهم تحمل المسؤولية عنها. وهذا بدوره عوّق كل مجهود فكري جاد ومتجرد. وليست المشكلة في قلة المفكرين، ولكن في معوقات التفكير، ومن شرها التحزّب للأشخاص أو للطوائف.
كيف تقرأ حال ومستقبل السودان؟
يؤسفني أن أقول إن السودان مقبل على كارثة محققة، قد يكون من عواقبها تفكك الدولة وانهيارها. فالفئة الحاكمة في حالة إفلاس فكري وأخلاقي، وفقر من مبادرات ذات معنى لمواجهة الأزمة. وأهم من ذلك، تفتقد الثقة في نفسها. فالحزب الحاكم ليست لديه قدرة على خوض انتخابات نزيهة، ولا على مواجهة خصومه في حوار علني، وهو يعلم ذلك. ولهذا يجتهد في تكميم الأفواه ومحاربة الإعلام الحر، كما أنه لا يسمح لأحزاب المعارضة بالمنافسة الحرة والنزيهة. ولكن رغم تطاول العهد، فإن الحزب يزداد ضعفاً، بينما تزداد المعارضة له شدة. والنتيجة صدام حتمي.
كيف تنظر لمسيرة الحوار الوطني؟
كنا ولا زلنا ندعو أهل الحكم إلى اقتناص الفرص العديدة التي أتيحت لهم، وآخرها مبادرة الحوار التي قبلها الجميع، ولكن النظام نكص عنها، و”سلقها”، وهو الآن يتملص حتى من التوصيات التي كتبها بنفسه في غياب معظم المحاورين المفترضين. وفي نظري أنه كان أولى بالنظام أن يجتهد في تقوية حزبه، بجعله حزباً حقيقياً أولاً، ثم بفتح الباب للمنافسة الحرة في ساحة تكون متاحة للجميع ثانياً، حتى يجد بذلك الجرأة على خوض تجربة ديمقراطية تكون له فيها فرصة أفضل. ولكن ما حدث هو أن الحزب كسيح، والنظام يزيده كساحاً بإفساده وتعيين غير المؤهلين على رأسه. وما دام الحزب يعرف أنه كسيح، فهو لن يسمح بانتخابات حرة ولا حوار حقيقي ولا شراكة ذات معنى في السلطة. وهذا وضع لا بد أن ينتهي بكارثة على الحزب والنظام والبلاد والمنطقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.