الفكر الأفريقي بين الأهواء السياسية والضمير الإنساني \"نموذج الوحدة السودانية\" (2-4) محمود ألحاج يوسف [email protected] هنالك بعض النماذج المهمة في تاريخنا، مثل بعض مما كان يحدث في الحركة الشعبية لتحرير السودان، ففي مرحلة التسعينات كان هنالك إحساس عند البعض بان هنالك حاجة إلي عمل فكري موازي ومساو للعمل العسكري الذي كان قائما، ولقد سمعنا همسا بأن هنالك اتجاه بان يتولى يوسف كوة مكي مسئولية ألامين العام للحركة، وكان الرأي بأن ذلك كان يمكنه أن يسبب تغييرا جذريا في الجمود الفكري في الحركة، ولكن قد تكون ظروف مرضه ووفاته ما لم يساعد علي تحقيق ذلك. في ذلك الجو الخانق لم يكن يجرؤ أحدا علي القيام بأي نقد أو حتى مجرد عمل مقترحات لأنها ستصب في خانة المحظورات، وكان عشقنا للحرية كبيرا، ومن هذا المنطلق كان كبير اهتمامي بالكتاب الذي أصدره دكتور بيتر ادوك نيابا \"\" عام 1998، وقد نال الكثير من النقد، وحدث الكثير ولكنها كسرت حاجز النقد، وأوجد مناخا لقابلية إيجاد جو من الحرية الفكرية. كانت هنالك حاجة لخلق الحراك الفكري لتعميق فكر الثورة وإيجاد سبيل للانسجام بين التناقضات الكثيرة التي كانت تسود الحركة وبخاصة بين الوحدويين والانفصاليين، والنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي سيتبع، مع وجود الكثير من القضايا الاخري التي كانت تحتاج إلي البحث والتأويل، وبخاصة الدراسات الخاصة بتاريخ السودان، ماذا حدث ولماذا؟ وما هي الإيجابيات والسلبيات في التاريخ السوداني؟ إن كانت هنالك سلبيات فما هي العوامل التي أدت إلي ذلك ؟ وهل كان بالإمكان تغيير ذلك؟ وهنالك الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلي إجابة، مثل ما هي خصائص المجتمع أو المجتمعات السودانية؟ وهل هنالك روابط مشتركة تجمعنا نحن السودانيين وما هي درجاتها؟ وهل نحب بعضنا أم نكره بعضنا كسودانيين؟ وما هي درجة الأفريقية فينا كشعب؟ وما هي درجة العروبة فينا كشعب؟ وما هي درجة التمازج التي تمت في هذه المكونات؟ وهل الانفصال هو خير الخيارات للسودانيين، ولماذا، وما هي فوائدها؟ وهل هنالك ايجابيات من وحدة السودان، وما هي؟ وما هي الوحدة التي دعت لها الحركة الشعبية وما نوعيتها وغاياتها؟ وهل تأسست الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان من أجل تحقيق تلك الوحدة أم كانت حركة رفض لتقسيم الجنوب عام 1983؟ أم كانت تهدف لفصل الجنوب دون أية إكتراث لما يمكن أن يحدث في الشمال؟ ولماذا دخل النوبة والفونج وأهل دارفور والشمال إلي الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، مع مختلف تلك النسب؟ وماذا كانت طموحات من دخلوا الحركة؟ وهل تم تعريفها؟ والإجابة لها؟ وهل هذه الطموحات وألأهداف مازالت موجودة؟ ومن هم هؤلاء الملايين الستة الذين قدموا لاستقبال دكتور جون قرنق بالساحة الخضراء بالخرطوم في الثامن من يوليو 2005؟ هل كانوا أفارقة؟ يريدون إقامة دولة افريقية في السودان؟ أم كانوا علي أهداف إنسانية عظمي؟ وما هي علاقة الحركة الشعبية بثورة 1924؟ وما هي ثورة 1924؟ وهل هي ثورة افريقية أم جامعة لكل السودانيين؟ ومن الذين قادوا تلك الثورة؟ وما هي علاقة التنسيق بين مجموعة عبد الفضيل الماظ العسكرية التي تمردت أو ثارت علي النظام وقوة ألاستعمار البريطاني بجمعية اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف؟ وإذا لم تكن هنالك علاقة كما شككت بذلك المؤرخة اليابانية يوشيكا كورينا، فلماذا حل الانجليز جمعية اللواء الأبيض؟ وما ذا حدث بعد ذلك ولماذا؟ وما علاقة كل ذلك بما كان يحدث فيما يتصل بتمثيل السودانيين؟ جاوبنا علي بعض من هذه الاسئلة في مقالتنا (خلفية الدعوة لرؤية السودان الجديد). ومن هم الجنوبيين الذين يعيشون حاليا في الشمال، وكم أعدادهم؟ وما ذا يمثلون تجاه وحدة أو انفصال الجنوب؟ وما هو دورهم في وحدة السودان في الماضي وحاليا ومستقبلا؟ وكقاعدة لوحدة السودان، أليست لهم الحق في المشاركة في تحديد مصير الجنوب من أي موقع؟ وهنالك بعض الأسئلة التي لم يحاول احد تتبع دقائقها وإن حاول الكثيرين الإجابة عليها، مثل، ما هو الهدف من اتفاقية السلام الشامل؟ هل لإنفراد المؤتمر الوطني بحكم الشمال والحركة بحكم الجنوب؟ أم لتوحيد السودان؟ أم لانفصال الجنوب؟ أم للتحول الديمقراطي والذي إنخدع الكثيرين به؟ وما هي وضعية جبال النوبة والنيل الأزرق في حالة انفصال الجنوب؟ هل المنطقتين جزء من الشمال أم الجنوب؟ وما ذا يرغب قيادات المنطقتين؟ وما ذا يرغب مواطنيها؟ وما هي تأثير سكان المنطقتين علي بقية السودان؟ وكم هي أعداد مواطنين هذين المنطقتين الموجودون في مناطق الشمال الاخري؟ وهل هنالك شعوب أخري قد مرت بتجربتنا أم نحن فريدين في ذلك؟ هل سيشكل الدين ألإسلامي حاجز بين السودانيين؟ هل يمكن للجنوب تشكيل دولة خالية من المسلمين؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلي الإجابة الصادقة والصريحة ولكن ممن؟ إننا لا نتوقع شخص مثل الطيب مصطفي أن يجاوب بصدق علي هذه الأسئلة، وهو قد حاول ألإجابة علي بعضها ولكن من منطلقات إقصائي شب وشاب عليها، ولكن الأهم من كل ذلك هل كانت هنالك محاولة صادقة لجعل الوحدة جاذبة من الجانبين، كما تمناها الشعب السوداني؟ وما هو الدور والبعد الأفريقي فيما يحدث وسيحدث؟ وما هو دورنا كسودانيين فيما يحدث؟ هل نساق إلي مصير غير مكتوب مثل الخراف ولحتفنا من قبل مجموعات لا توجد في قلوبها غير الحقد؟ أم لنا رأي فيما يحدث ويجب أن نشارك في صنعها، وكيف؟ دائما ما أنظر للسودان علي أنها النموذج المصغر للتجارب الإنسانية، ورغم صعوبة التحديات الماثلة أمام مختلف ممثليها، فإن نجاح أو فشل تجربتها هي معيار لمقدرة وتطور الجنس البشري للتأقلم والتغيير والارتقاء والتنازل في سبيل إيجاد الحياة الكريمة ولمصلحة الأجيال القادمة. هنالك كم هائل من الحواجز العرقية التي حاولت الأديان إذابتها ولكن للأسف قامت بتعميقها في بعض المجموعات التي لم تتطور بمفاهيمها وإنسانيتها، فلينظر المرء لقطبي منبع اليهودية والإسلام ليفهم هذه الحقيقة. لقد كانت هنالك تجارب مرة صاحبت تغيير المفاهيم العرقية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يتم دراستها في المدارس لتعميق معانيها والاستفادة منها كتجارب البشرية، ولكن المؤسف لم يتم استيعاب ذلك من منطلق تكرار التجارب البشرية، وفشل الكتاب والمفكرين السودانيين في تحليل الكثير من السلبيات الموجودة في المجتمع السوداني والتي كثير ما تأخذ الطابع القبلي والعرقي، ما عدا القلة التي غطت الاصوات السياسية عليها،. أليس من الغرابة أن تقام أندية قبلية وفي العاصمة القومية من البلاد ومنذ الستينات؟ كانت تلك جزء من موروثات وسلوك للبعض في المحافظة علي نقاء عرقها وثقافتها وسلوكها، لأنه ليس من الطبيعي أن يرتاد هذه الأندية عناصر من القبائل الاخري، اذكر أن ذهبنا في 30 أكتوبر 1974 لمشاهدة ملاكمة محمد علي كلاي ضد جورج فورمان، في كينشاسا بواحدة من هذه الأندية بالديوم الشرقية، ورغم أن النادي مجاور لمعهد الكليات التكنولوجية (جامعة السودان حاليا) لكن انتابني إحساس بأن هنالك فارق ومسافة كبيرة بيننا، كان ذلك في منتصف السبعينات، حتى أتي هذا الزمن وتم تقنين كل ذلك، وبدأ الشعور بالانتماء إلي القبيلة تتجاوز الانتماء الوطني، في هذه الدوامة من المياه العكر بدأت نماذج من جاهلية الإنسان في الظهور! مؤخرا سألنني صديق من منطقة أبياي لماذا لا يوجد فلاسفة في السودان؟ أخبرته، أنه كان في السودان عمالقة مثل السلامابي و بروفسير النذير دفع الله وآخرون، ولكن تقهقر بنا الدهر بفضل سياسينا حتى أصبح ساحاتنا مليئة بمن يصخبون كثيرا، والموهوبون منشغلون بما يسد رمق الحياة! دلت تجارب البشرية بان المسافات بين المفكرين والسياسيين والعسكريين كانت كبيرة دائما، ولكن للأسف فإن هذه المسافة صغير جدا أو لا توجد في أفريقيا، إلا في حالات قليلة مثل الراحل كين سريويوا، ودكتور ويل سايونكا، والراحل العظيم المقيم دكتور تاج الدين عبد الرحيم، وآخرون قلائل. لكن لننظر إلي نموذج من الفكر الأفريقي تجاه اتفاقية السلام الشامل، وبخاصة مفكري ربوع أفريقيا، ماذا فعلوا في سبيل جعل الوحدة جاذبة في السودان؟ إن السودان بموقعه وتنوعه هو المكان الأمثل لإذابة مختلف الفوارق، ولقد حدث في السودان إذابة لاثنيات عرقية من إثيوبيا وارتريا في الشرق والجزيرة العربية عبر البحر الأحمر ومصر في الشمال وليبيا من الشمال الغربي (متضمنا المغرب وموريتانيا) وتشاد من الغرب (متضمنا نيجيريا، وهذا جزء لوحده)، وإفريقيا الوسطي من الجنوب الغربي، ومعها جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجنوبا يوغندا، وكينيا في الجنوب الشرقي، كل هذه الدول لها علاقات تداخل عرقي وزواجي مع السودان وقامت هذه الظاهرة بإنجاب الكثير من العناصر المشتركة وبإيجاد جو من تسامح وعوامل مشتركة كثيرة، كانت هي الأساس لصياغة المفاهيم التي يمكن من خلالها بناء الشخصية الأفريقية والوحدة الأفريقية، فقط لنقارن العلاقات الشعبية والرسمية التي تربط السودان مع كل الدول المذكورة أعلاه في مراحل السبعينات (ماعدا ارتريا التي لم توجد حينها) وما كانت تربط الأوربيين بعد الحرب العالمية الثانية من كره! لقد قفزوا في اقل من خمسون عاما فوق كل تلك الحواجز، ليعايشوا مجتمع أكثر إنسانية! وتقهقرنا في أفريقيا والسودان وأصبحنا علي حافة التمزق، فما هي دواعي وجود ألإتحاد الأفريقي إذا لم يسعى للتوفيق وتعميق الوحدة بين مكونات جاهزة مثل السودان؟ وأية وحدة تسعي لها الإتحاد الإفريقي؟ فأجدر أن تسمي التمزق الأفريقي! يقودنا ذلك إلي السؤال عن ما الذي قام به الفكر الأفريقي وبخاصة ألبان افريكانست (Pan Africanists) في جعل الوحدة جاذبة في السودان؟ لقد نصت اتفاقية السلام الشامل علي أن تكون الفترة الانتقالية هي الفرصة لجعل الوحدة جاذبة، وهذا الدور ليس فقط علي عاتق السودانيين وحكوماتهم، فإن للأفارقة الدور الأكبر في ذلك، ومن ثم العرب وشركاء الإيقاد، وهذا الدور ليس قاصرا علي الحكام أو الدول، وليس فقط بجلب المال والاستثمار، هنالك أشياء أساسية أهم من كل ذلك، أشياء مرتبطة بالمفاهيم والقيم التي استنبطت خلال القرون الكثيرة الماضية من العلاقات المشتركة التي جمعت السودانيين. ترجع أصول القبائل الجنوبية الكبيرة مثل الشلك والنوير و الدينكا إلي كوش، فهل تراجعت هذه القبائل كوحدات؟ أم تركت بعض من إفرادها وتراثها ومفاهيمها في كل مرحلة إرجاعي لتكون جزء من المكونات الحالية؟ كانت هنالك محاولات متواصلة للتخلص من هذه المكونات التي أصبحت جزء من الشخصية السودانية. وكان الدور الافتراضي للفكر الأفريقي هو دراسة الحالة السودانية من اجل إبراز كل الجوانب الايجابية والسلبية في صياغة العلاقة بين الجنوب والشمال حتى يتم فهم أفضل للسودانيين وما هي حجم العوامل التي تربطهم معا وما هي تلك التي تباعد بينهم، وحين يأتي وقت الاقتراع علي حق تقرير المصير يكون كل الجنوبي السوداني علي وعي كامل بما سيقدم عليه من تصويت ومدي خطورة ذلك وإيجابيته علي مستقبله؟ سنواصل. محمود الحاج يوسف عضو سابق بالحركة الشعبية، والرئيس السابق المجلس الاسلامي للسودان الجديد وباحث مستقل [email protected]