بالمنطق «سرايات» الحكم «الصفرا»..!!! صلاح عووضة * أرسل لي بعض القراء مشكورين ما قالوا انها آخر نكتة من النكات المتداولة في ليبيا هذه الأيام.. * تقول النكتة إن نزلاء مصحة الأمراض النفسية والعقلية بطرابلس تظاهروا بشدة داخل حوش المصحة مطالبين باخراجهم عقب سماعهم خطاب القذافي الأول.. * فرئيسهم هو الذي يجب أن يكون داخل هذه المصحة وليسوا هم.. * والنكتة هذه يتجاوز بعدها الفكاهي أسواراً مثل أسوار المصحة المذكورة ليتشظَّى أبعاداً مأساوية تنداح نحو أبناء الوطن أجمعين.. * وإن كنا نعني بالوطن هنا ليبيا إلا أن الأوطان ذات الأنظمة المشابهة ينطبق عليها الشيء نفسه.. * فالجانب الفكاهي في هذه النكتة ينطوي على جوانب تراجيكوميدية تتجلى ذروتها حين تداعي أنظمة حكمت شعوبها بقبضة من حديد لعقدين أو أكثر من الزمان.. * فالقذافي مثلاً لم يبدُ مفارقاً للواقع على نحو مثير للسخرية هكذا فجأة حين اهتزاز عرشه من تحت قدميه، ولكنه كذلك منذ لحظة استلامه السلطة بالقوة.. * ففكرة «سرقة!!» السلطة عبر تدابير أشبه بتدابير «حرامية الليل!!» هي أصلاً فكرة مفارقة للواقع.. * هي فكرة «جنونية!!».. * فإذا ما نجحت التدابير هذه أضحى أصحابها في حالة «إنفصام عن الواقع!!» طوال فترة تربعهم على كراسي الحكم.. * هم كذلك وإن خفيت حقيقتهم هذه على كثير من «البسطاء» من أبناء شعوبهم.. * وتخفى على هؤلاء أيضاً كثير من الحقائق الأخرى.. * ومن أهم الحقائق هذه حقيقة «الجبن» التي يسترها إدعاء أجوف بالقوة والمنعة والإعتداد بالنفس.. * فمن يرتعد رعباً وهو يتسلل في جنح الليل ليختلس سلطة يشبع بها رغبة «تسلُّطية» في دواخله يبقى مرتعباً مادامت السلطة هذه في قبضته.. * وتحت تأثير رعب قاتل مثل هذا يضحى أفراد الشعب كلهم مرعوبين بفعل آلة البطش والقمع والجبروت سعياً للحفاظ على السلطة من جهة، وسعياً كذلك للحفاظ على النفس أن لا تُحاسب على «سرقة!!» الشرعية.. * فالقذافي طوال فترة حكمه كان باطشاً وقاهراً ومتجبراً.. * كان لا يتورع عن سجن وتعذيب وسحل وقتل كل من لا يدور في فلك كتابه الأخضر.. * وكان في الوقت ذاته «مفارقاً للواقع!!».. * طوال أربعين عاماً ونيف هو كذلك.. * وبعد هذا العمر المديد كله من الإنفراد بالحكم لا يريد القذافي أن يصدق أن «الواقع!!» هو بخلاف ذلك الذي كان يعيش فيه.. * لا يريد أن يصدق أن شعبه لا «يحبُّه!!» وإنما كان يحاذر آلة بطشه التي لا ترحم.. * ولا يريد أن يصدق أن كتابه الأخضر «المقدس!!» كان في نظر الكثيرين من أبناء شعبه تُرُّهات لا قيمة لورقه سوى أن يكون قراطيس للطعمية واللّب والفول السوداني.. * ولا يريد أن يصدق أن الحشود التي كانت «تُخرَج!!» له بغرض إظهار التأييد «تَخرُج!!» الآن من تلقاء نفسها لتقول له: «إرحل!!».. * ولا يريد أن يصدق أن حصونه التي كانت مانعته من «المساءلة!!» توشك أن تنهار ليتبدَّى للناس كل ما كان مخفياً من فساد وسرقات وتجاوزات ومخازٍ أخلاقية.. * ولا يريد أن يصدق - وهذا هو محور كلمتنا هذه أن حقيقة «مفارقته للواقع!!» التي كان يحاول إخفاءها سنين عدداً بإدعائه الهيبة والقوة والزعامة تنسرب من بين أصابع قبضته «الحديدية!!» ليبدو أمام الناس شخصاً مفتقراً إلى «التوازن النفسي!!».. * ليبدو مثله مثل القابعين خلف أسوار المصحات النفسية.. * وحالة الانفصام عن الواقع هذه هي التي جعلت بن علي «رزلاً!!» حين بلغت ذروتها بانتفاضة الشعب ضده.. * وجعلت مبارك «تِنحاً!!» حين حدث له الأمر نفسه.. * وتجعل علي عبد الله «بجِحاً!!» هذه الأيام.. * أما القذافي فحالته متأخرة كثيراً.. * فهو في حالة انفصام عن الواقع منذ أكثر من أربعين عاماً هي سنوات حكمه.. * وإصراره العجيب على إنكار الواقع تجاوز «رزالة» بن علي و«تناحة» مبارك و«بجاحة» علي عبد الله.. * فهو صار يرى الاحتجاج تأييداً، والكره حباً، وأفراد شعبه جرذانَ، والرغبة في التغيير هلوسة.. * وهذه «حالة!!» لم يبلغها بعد نزلاء مصحة طرابلس النفسية.. * وهكذا أثبتت ظاهرة انهيار الأنظمة القابضة من حولنا أن القصور الرئاسية قد تكون «سرايات صفراء!!» تُصاغ بداخلها سياسات «مجنونة!!».. * وأن بعض ساكني هذه السرايات «الصفرا» قد يكونون أكثر إضحاكاً من عادل إمام.. * وأكثر قسوة من جنكيزخان.. * وأكثر رعباً من «حرامي ليل» يُخشى أن يقبض عليه فيُحاسب.. * فكيف لا يكون «مفارقاً للواقع» من كان هذه هي «حالته»؟!!!. الصحافة