تراسيم يوميات كادر سياسي !! عبدالباقي الظافر [email protected] جلس كرم الدين على المقعد الأمامي في السيارة الفارهة ..كان يرنو بسعادة إلى (البيرق) الذي يرفرف على مقدمة العربة.. ينظر من وراء الزجاج المظلل إلى الناس يراهم مجرد كائنات صغيرة.. أحيانا يشعر أنه محظوظ، ولكنه سرعان ما يطرد هذا الإحساس المذل.. يحاول أن يقنع نفسه أنه ذكي ..كل ما أصاب من نجاح كان حصيلة عمل مخطط له بعناية ..أخبر سائقه أنه يريد أن يطوف على القرية .. في الحقيقة كان يريد أن يثأر من (الحلة) التي لم تعرف تمام قدره. الزيارة جعلته يتذكر ..كرّيم كان ذلك اسم التحقير أثناء الدراسة الابتدائية ..لم يكن كرّيم غبياً بقدر ما كان لا يحب الدراسة ..يستهوي اللعب ويجيد صناعة المقالب ..ولكن أهل البلد كانوا يعتبرون بنتائج الامتحان ..كرّيم لا يمنح أحداً شرف المشاركة في (الطيش) ..انطبع كرم الدين في ذهن العشيرة بعلامة الفشل. من المدرسة المتوسطة هرب كرم الدين ..قصة هروبه ما زالت تتردد في مجالس القرية ..جاء الصبي اليافع إلى الخرطوم ..وجدها مدينة قاسية لا ترحم الضعفاء.. أدرك القاعدة الأولى في حياته، القوة أولاً وأخيراً .. قراره الأول مصاهرة أحد أثرياء المدينة ..لم يكن قد رأى كريمة الرجل الذي قرر مصاهرته ..نظر كرم الدين إلى العمارة السامقة، وأراد أن يدخلها من أبوابها الخلفية، وقد كان له ..كانت تلك الخطوة الأولى لنجاح شاب حسبه الناس من الأغبياء. بعد أن أصاب الثروة راح يبحث عن أختها السلطة ..كانت تلك مهمة عسيرة لرجل محدود التعليم ..هفت له أن يمضي متطوعاً في حرب الجنوب ..هذه الخطوة تجعله يقفز بالزانة ..قدم كرم الدين نفسه باعتباره رجل أعمال، ترك الثروة من اجل الثورة ..من تلك اللحظة وجد شفرة لفتح الأبواب المغلقة ..في القائمة النسبية وجد اسمه ممثلاً للغرفة التجارية. في البرلمان عرف كيف يسرق الكاميرا.. لم يكن لبقاً في الحديث، ولكنه كان كريما في الإدلاء بالتصريحات المتطرفة ..ان أرادت الحكومة احتلال أبيى اقترح اقتحام ياي ..إن تعسرت مفاوضات سلام دارفور في الدوحة نادى بالاحتكام للبندقية ..إن تفوه سفير أجنبي بكلمة غير مناسبة نادى بإغلاق السفارة المعنية وطرد كل طاقمها. الحكومة تكافئ صاحب العمامة الكبيرة بمنصب رئيس لجنة في البرلمان ..ثم يصبح عضواً بارزاً في كل الوفود التي تسافر للبحث عن السلام ..مهمته تبدأ حينما تعجز الدبلوماسية. مشكلة كرم الدين كانت مع قريته ..أهل القرية كانوا يتعجّبون من كريم، الذي أصبح في زمن الغفلة سياسياً يدلي بالتصريحات.. كرم الدين الذي أقنع الخرطوم بأنه رجل مهمّ، يحاول في جولته هذه أن ينزع اعترافاً من عشيرته الأقربين. أمام دكان الشيخ وجد جمهرة من أهل القرية ..أراد أن يستهلّ المهمة من هذا المكان ..الدرويش طه بثيابه المتسخة يحتضن النائب المحترم في لهفة وشوق ..ثم يسأله في براءة (ليه يا كرّيم تلّبت من شباك المدرسة)..النائب يعود إلى جوف سيارته ويطلب من سائقه العودة للخرطوم.