في منتصف اغسطس 2013 أهداني الأستاذ ابراهيم علي ابراهيم روايته الحيطان على أنها محاولة أدبية جديدة له بجانب مقالاته السياسية المتتابعة، و كتابه المنشور في العام 2002 " الحرب الأهلية و فرص السلام في السودان"، الحق أنني و لمدة طويلة كففت عن قراءة الروايات نسبة لضيق الوقت و إيقاع الحياة المتسارع الذي يجعلك تقراء رؤوس المواضيع على عجالة. لكن لحسن الحظ و لموضوع الرواية الذي يعالج ضحايا التعذيب في السودان و الذي صادف هوى في نفسي فقد قرأتها في يومين، و قررت على الفور أن أكتب انطباعا شخصيا عنها. طبعت الرواية في ورق مصقول من القطاع المتوسط و يبلغ عدد صفحاتها 176 صفحة، الغلاف مختار بعناية و توجد فيه صورة شخص من على البعد تظهر فيها قامته باهتة دون أية تفاصيل. أهدى الكاتب روايته إلى ضحايا التعذيب في السودان، و إلى والده و زوجته. الرواية تدور أحداثها داخل السودان و في الولاياتالمتحدة، بطل الرواية راشد عبد الرحيم حمد الله و الذي ولد في بداية السبعينيات في قرية من قرى الجزيرة أسماها الكاتب الضاحية، و أنتقل راشد إلى العاصمة الخرطوم لدراسة الآداب، في الجامعة يلتقي راشد ذو الموهبة الشعرية الدافقة صدفة بأبوبكر إعيسر و عادل عبد الباقي الذين جمعتهم اهتماماتهم الأدبية المشتركة، هذا اللقاء المبكر أثمر عن صداقة أصبحت هي الخط الدقيق الذي يربط أحداث الرواية ببعضها و الأصدقاء الثلاثة في أحداث مثيرة يربطها الكاتب بتناغم رائع. يروي الكاتب قصة انخراط راشد في تنظيم يساري في الجامعة و نشاطه عبره، و كان ذلك في زمن ديكتاورية عسكرية ناءت بكلكلها على كاهل شعب السودان و فتحت لأبناءه طريق العذاب و المعاناة من الحرب الأهلية التي اكتسبت بعدا جهاديا ملفقاً إلى التجنيد الاجباري للشباب و الدفع بهم قسرا إلى اتون الحرب، في تفاصيل تعيد بقوة إلى بداية التسعينات في الواقع السوداني المأزوم. انضمام راشد إلى العمل السياسي جر عليه الويل و الثبور و عظائم الأمور، و بالطبع لا يخلو إسم راشد أيضا من رمزية حسب إعتقادي مقصودة من الكاتب الحصيف فراشد هو الأسم الحركي للقائد اليساري المعروف عبد الخالق محجوب. أيضا و بصورة مؤلمة يذكر المؤلف تفاصيل معتقلات الجبهة الإسلامية الرهيبة المسماة ببيوت الاشباح، و ما فيها من فظائع يندي لها الجبين، أثناء قراءتي لتلك الأجزاء من الكتاب تذكرت معاناة أصدقاء حقيقيين ذكروا لي تفاصيل مشابهة من الواقع و داخل نفس الزنازين، و دونوها على صفحات الأثير الالكتروني و منهم المرحوم خالد الحاج الذي اعتقل في الخرطوم، و غيرهم كثيرون، و يروي الكاتب معاناة بطله بين حيطانها التي شكلت شخصيته و غيرتها إلى الأبد، و في قمة إبداع روائي يسطر الكاتب على لسان بطله الصراع الدائر داخله و معاناته الرهيبة مع آثار التعذيب النفسي و المعنوي التي حفرت ندوب عميقة في شخصيته و طريقة تعاطيه مع الحياة بعد الإعتقال و كيف أنه وجد عناءا كبيرا في التعامل مع الحياة بعد الافراج عنه. و لكن بالرغم من عنوان الرواية و موضوعها الأساسي السياسي الطابع، إلا أنها و كأي رواية متكاملة الأضلاع، لا تخلو من الجنس الآخر و العاطفة الجياشة بين بطل الرواية و تجاربه العاطفية و علاقات حبه العابرة منها و العميقة و التي تقرب القارئ من مجتمع مديني لمهاجر من الريف يجد في المدينة الخصوصية الكافية ليخوض تجارب لم يكن ليحلم بها في قريته، و تأتي إبتسام في قمة هذه التجارب لتجسد تجربة أيضا فريدة في علاقة غريبة عن المجتمع مع راشد، تعيش تجارب إعتقاله و الإفراج عنه و نزواته و مزاجاته، من مآخذي على الكاتب إنه ترك نهايات مفتوحة لشخصيات أساسية مثل ابتسام في النهاية تترك في نفس القارئ شيء من حتى عند الفراغ من قراءة الرواية. أسلوب الكتابة أيضا به لمسات الواقعية السحرية لكتاب أمريكا اللاتينية أمثال غارسيا ماركيز و تشابه أسلوب الصديق الروائي الحاذق أحمد الملك، و لا تلخو من سخرية لافتة، ففي رحلته الأولى إلى الخرطوم يصف راشد مشهداً في الباص لطفل ضخم الحجم يرضع من ثدي أمه النحيلة " و تخيلت إن جسد الطفل الضخم يكبر مع كل مصة يقوم بها في الوقت الذي يصغر فيه جسد الأم". أيضا يورد بعض الملاحظات الطريفة مثل الشعار المكتوب بجانب كافتيريا الجامعة " عصير الليمون البارد هو سر المقاومة في السودان". نهاية الرواية مفتوحة لكنها أيضا محبوكة و تدفع القارئ إلى التأمل، و نجح الكاتب بصورة كبيرة أن ينقل لنا تجربة قروي عادي قاده نبوغه إلى الإلتحاق بإحدى مؤسساتها العلمية الراقية مما يعكس عدالة النظام التعليمي في تلك الأزمنة، فشخصية راشد تحمل إرثا مشتركا للكثير من المتعلمين السودانيين و الكثيرون سيجدون أنفسهم فيها و ستذكرهم يقينا بأوقات الصبى و الزمن الجميل، أما بالنسبة للناشطين في العمل العام فهي رواية تعكس لهم تجارب معروفة و سيجدون شخوص الرواية تذكرهم بعشرات الوجوه المألوفة لديهم، إنها رواية ممتعة لصيقة بالواقع و تعبر عن جيل بطلها و لا تخلو من المفاجآت. أمجد إبراهيم سلمان 11 سبتمبر 2013 [email protected]